. 31 أكتوبر, 2022, 8:44 PM
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
وبعد : فإن المصطلحات العلمية هي مفاتيح العلوم ، كما سماها الخوارزمي في كتابٍ له بهذا الاسم ؛ لذا فإن العناية بتحرير المصطلحات العلمية من أجلّ أبواب العلم ، وفي غاية الأهمية ، لما يترتب عليها من فوائد عظيمة في المجال المعرفي؛ من ضبط للعلم بتصوير الحقائق ، وتوضيح الدلالة ، وإزالة الاشتباه واللبس ، وتيسير الوقوف على مراد المتكلم، وتضييق دائرة الخلاف ، وبناء المسائل والأحكام على معانٍ محددة .. ([1])
وسيكون حديثنا هنا في أهمية تحرير المصطلحات في المجال الشرعي بشكل عام ، مع عناية خاصة بالمصطلح العقدي .
وفي البدء نقول : المراد بالاصطلاح : (اتفاق طائفة على وضع اللفظ بإزاء المعنى) كما يقول الجرجاني ([2])، أو هو : (اتفاق طائفة مخصوصة على أمر مخصوص) كما يقول الزبيدي([3])، وهو بتعبير الشيخ بكر أبو زيد : (اللفظ المختار للدلالة على شيء معلوم ليتميز به عما سواه) ([4]).
فاللفظ الدالّ هو المصطلح أو الاصطلاح ، والمعنى المدلول عليه هو المفهوم .
وقد عنيت الشريعة الإسلامية بالأسماء ومعانيها عناية كبيرة، وحفلت نصوصها ببيان الاصطلاحات الشرعية المتنوعة ، ما أوجد مادة علمية للمدوّنين بعد ذلك فيما عُرف بالألفاظ أو الأسباب الإسلامية ، ولعل من المناسب في هذا المقام أن نذكر بعض الأمثلة على عناية الشريعة بهذا الموضوع ، فمن ذلك :
- قوله تعالى: )وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا( ([5])، روى البخاري بسنده إلى أنس t عن النبي r قال -: «يجتمع المؤمنون يوم القيامة، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا ! فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء» ([6]).
ورد عن ابن عباس ومجاهد وابن جبير وغيرهم أنهم قالوا في معناها: (علّمه اسم كل شيء). ([7])
وقال ابن كثير : (الصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها : ذواتها وأفعالها ؛ كما قال ابن عباس ...) ثم ساق حديث البخاري السابق. ([8])
وقال تعالى : )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا( ([9])في هذه الآية ينهى الله المؤمنين أن يتشبهوا باليهود في قولهم : (راعنا) لما لها من معنى سيء في أذهان اليهود ، وذلك أن اليهود كانوا يُورُّون في الكلام بقصد التنقيص من الرسول r ، فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولون: راعنا، يورُّون بالرعونة، والمؤمنون يقولون راعنا من المراعاة ، فتختلط المسميات بين ما في أذهان المؤمنين وأذهان الكافرين اليهود . ([10])
قال ابن العربي : (وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَجَنُّبِ الأَلْفَاظِ الْمُحْتَمِلَةِ الَّتِي فِيهَا التَّعَرُّضُ لِلتَّنْقِيصِ وَالْغَضِّ) ([11])
وقال تعالى : )الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ( ([12])
في هذه الآية يذم الله الأعراب لكونهم أشدَّ كفراً ونفاقاً من غيرهم ، ولجهلهم بحدود ما أنزل الله على رسوله ؛ لغلبة طبع البداوة عليهم الملازم للجهالة والبعد عن العلم والحضارة ، ومن معرفة حدود الله معرفة معانيها ودلالتها لذا كانوا مأمورين بالهجرة إلى المدينة لتعلم حدود الدين ثم يعودون إلى قومهم منذرين ([13])، وكان النبي-r- يبعث دعاة إلى البلاد يقيمون فيهم يعلمونهم القرآن وحدود ما أنزل الله، فقد بعث معاذاً وأبا موسى وعلي بن أبي طالب إلى اليمن ، وبعث قبل الهجرة مصعب بن عمير إلى المدينة ، وبعث جماعة من أصحابه جهة نجد ليعلموهم ، فلما بلغوا بئر معونة غدر بهم الكفار فقتلوهم ... إلخ ([14])
وإذا جئنا إلى السنة النبوية وجدناها قد عُنيت ببيان الأسماء الشرعية ومعانيها أيّما عناية ؛ لما يترتب على ذلك من أهمية بالغة ، فهذا النبي -r- قد بيّن حقائق الأسماء الكبرى : الإسلام والإيمان والإحسان غاية البيان حين سأله جبريل u عنها أمام الصحابة ، فأجابه النبي -r- بجواب شافٍ كافٍ والصحابة يسمعون ، ثم أخبرهم في نهاية الأمر بأن السائل هو جبريل u وقد سأل لا لحاجته لمعرفة تلك الحقائق فهو يعرفها ، وإنما (ليعلمكم أمر دينكم ) ([15])
وفسّر النبي -r- الإيمان لبعض الوفود فقال : (آمُرُكُمْ بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ ، وَهَلْ تَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ ؟ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ ، وَتُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ ) ([16])
وأخبر النبي -r- عن تغيير ناس من أمته بعض الأسماء والمصطلحات كالمحذِّر من فعلهم فقال : « لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا » ([17])فدلّ ذلك على أن من هذه الأمة من سيتلاعب بالأسماء والمسميات ويسمي الشيء بغير اسمه للتحايل على أحكام الله وحدوده ، مثل تسمية الخمور بالمشروبات الروحية أو الكحولية أو عصير العسل أو عصير الشعير أو نحو ذلك ، ويزعمون أنها غير محرمة ، لأنها لا تسمى خمراً ! وهم فيها كاذبون ؛ لأن كل مسكر حرام ، فمدار التحريم على السُّكر ، فلا يضر شرب القهوة المأخوذة من شجر معروف إذ لا سُكر فيها مع الإكثار منها وإن كانت القهوة من أسماء الخمر ، لأن الاعتبار بالمسمى . ([18])
وفي هذا تنبيه على وجوب تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية ؛ لما يترتب على ذلك من معرفة حكم الله فيها حلاً وحرمة.
ونهى -r- عن تسمية العنب كرماً فقال : « لَا تُسَمُّوا الْعِنَبَ الْكَرْمَ ». ([19])، وقد كانوا يسمونها بذلك لأن الخمر المتخذة من العنب تحث على السخاء وتأمر بمكارم الأخلاق – فيما يزعمون- ، فنُهي عن تسمية العنب بالكرم حتى لا يسموا أصل الخمر باسم مأخوذ من الكرم ، وجعل المؤمن الذي يتقي شربها ويرى الكرم في تركها أحق بهذا الاسم. ([20])
ولما سئل -r- عن بعض الأشياء : أهي داخلة في معنى الكبر ؟ قال : « لاَ ، وَلَكِنَّ الْكِبْرَ مَنْ بَطَرَ الْحَقَّ وَغَمَطَ النَّاسَ ».([21]) فحدّد معنى الكبر تحديداً جامعاً مانعاً بأنه بطرُ الحق، أي: دفعُه وإنكارُه ترفعاً وتجبراً ، وغمْطُ الناس ، أي: احتقارهم وازدراؤهم. ([22])
ولما سأله -r- بعض الناس عن حقيقة الغيبة أجابه بقوله : « ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ ، قَالَ : أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ ؟ قَالَ : إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ ». ([23])
ولما سئل -r- عن « الْوَهَنَ » ؟ قَالَ : « حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ». ([24])
والأمثلة -كتاباً وسنةً- على بيان عناية الشريعة بالمصطلحات كثيرة ، ولو ذهبنا نتتبع الأمثلة لطال بنا المقام وخرجنا عن حد الاعتدال ، ولعل فيما سبق من أمثلة كفاية لبيان هذا الأمر .
ولقد سار الصحابة على أثر الكتاب والسنة في العناية ببيان أسماء الدين ومعانيه ، وإيضاح حقائقه وحدوده ؛ لإدراكهم أثر ذلك في تصور المعاني الصحيحة وبناء الأحكام عليها ، وهذه بعض الأمثلة على عنايتهم بهذا الأمر ، فمن ذلك : ([25])
· تفسيرهم y للكلالة في قوله تعالى : )وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ ([26])(بأنه من لا ولد له ولا والد. ([27])
· وتفسير عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجبت بأنه : السحر ، والطاغوت : بأنه الشيطان . ([28])
· وتفسير علي بن أبي طالب t وغيره لقوله تعالى : )ويسألونك عن الروح( قال : (هو ملك من الملائكة) ([29])
· ونسب لعليٍّ t تفسير التقوى بأنها : (الخوف من الجليل، والعمل بالتنـزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل) ([30])
· وفسّر ابن عمر الأشهر المعلومات أنها « شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة » ([31])
· وجاء عن حذيفة t في معنى النفاق أنه : (الرجل يتكلم بالإسلام ولا يعمل به) ([32])
· وفي قوله تعالى : (إلا أن تتقوا منهم تقاة) يقول ابن عباس t : (التَّقِيَّة باللسان ، من حمل أمر يتكلم به وهو معصية لله ، فيتكلم به مخافة الناس وقلبه مطمئن بالإيمان، فإن ذلك لا يضره ، إنما التقية باللسان) ([33])
· ولما سئل ابن عباس t عن معنى الأبِّ في قوله تعالى : (وفاكهة وأبّاً) قال : (الأبُّ ما يعتلف منه الدواب). ([34])
· وقال t : (القَدَرُ نظام التوحيد ، فمن وحد الله ولم يؤمن بالقدر كان كفره بالقضاء نقضاً للتوحيد ، ومن وحد الله وآمن بالقدر كان العروة الوثقى لانفصام لها)([35]) ، والمعنى أن الإيمان بالقدر من توحيد الله ، لأن فيه إفراد الله بالربوبية والتدبير والإيمان بصفة العلم والكتابة والمشيئة والخلق ، وكل ذلك من توحيد الله ، فمن كذب بالقدر نقض توحيده.
· بل ورد عنه t تفسير ألفاظ كثيرة ومصطلحات عديدة وردت في القرآن الكريم ، ومن ذلك إجاباته على مسائل نافع بن الأزرق له أمام الكعبة عن عدد من ألفاظ القرآن الكريم ، مع الاستشهاد عليها بشعر العرب ، وقد رواها البخاري في صحيحة معلقة ، مفرقة حسب مواطن الشاهد منها ، وهي مشهورة عند أهل العلم . ([36])
وهكذا كلما احتاج الناس لبيان حدود ما أنزل الله وجدوا من الراسخين في العلم من أئمة الهدى من الصحابة فمن بعدهم من يوضح لهم ذلك ويبينه ؛ ولذا سنجد بيان الألفاظ والمصطلحات الشرعية يتوسع عصراً بعد عصر كلما دعت الحاجة إلى ذلك ، فعلى سبيل المثال سنجد في عصر التابعين تحريرات لبعض المصطلحات الشرعية التي دعت الحاجة إليها مثل قولهم : (الإيمان ما وقر في القلب وصدقته الأعمال ) وقولهم : (الإسلام الكلمة والإيمان العمل ) ، بل سنجد مقولة: (الإيمان قول وعمل ) تشتهر على ألسنة أئمة السلف لبيان حقيقة الإيمان الشرعية ، ونجد من يزيدها إيضاحاً بقوله : (الإيمان قول وعمل ونية ) ، وتارة يقولون : (قول وعمل ونية واتباع السنة) ، وتارة يقولون : (قول باللسان ، واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح) ، وكل هذا صحيح ، لحاجة الناس إلى الإيضاح وإزالة اللبس فيزيدون قيوداً في اللفظ لأجل ذلك . ([37])
ولقد أدرك أئمة الإسلام وعلماؤه من بعد القرون المفضلة أهمية بيان الاصطلاحات الشرعية وتحريرها ، فنبهوا على ذلك في مصنفاتهم وكتبهم ، ومن هؤلاء الأئمة شيخ الإسلام ابن تيمية (ت:728هـ) رحمه الله تعالى ، فله في بيان أهمية المصطلحات والحدود نصوص متعددة ، فمن ذلك :
1. قوله : (من قرأ كتب النحو والطب أو غيرهما ، لا بد أن يعرف مراد أصحابها بتلك الأسماء ، ويعرف مرادهم بالكلام المؤلف ، وكذلك من قرأ كتب الفقه والكلام والفلسفة وغير ذلك ، وهذه الحدود ؛ معرفتها من الدين في كل لفظ هو كتاب الله وسنة رسوله r - ثم قد تكون معرفتها فرض عين وقد تكون فرض كفاية ، ولهذا ذم الله تعالى من لم يعرف هذه الحدود بقوله تعالى : )الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ( ([38])، والذي أنزله على رسوله فيه ما قد يكون الاسم غريباً بالنسبة إلى المستمع ، كلفظ ضيزى وقسورة وعسعس وأمثال ذلك .
وقد يكون مشهوراً ، لكن لا يُعلم حدُّه ، بل يعلم معناه على سبيل الإجمال ؛ كاسم الصلاة والزكاة والصيام والحج ، فإن هذه وإن كان جمهور المخاطبين يعلمون معناها على سبيل الإجمال فلا يعلمون مسماها على سبيل التحديد الجامع المانع إلا من جهة الرسول -r - وهي التي يقال لها الأسماء الشرعية ، كما إذا قيل: صلاة الجنازة وسجدتا السهو وسجود الشكر والطواف هل تدخل في مسمى الصلاة في قوله -r- «مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم»([39]) ، فقيل : كل ذلك صلاة تجب لها الطهارة ، وقيل: لا تجب الطهارة لشيء من ذلك ، وقيل: تجب لما تحريمه التكبير وتحليله التسليم ، وهي كصلاة الجنازة وسجدتي السهو دون الطواف وسجود التلاوة .
وكذلك اسم الخمر والربا والميسر ونحو ذلك يعلم أشياء من مسمياتها ، ومنها ما لا يعلم إلا ببيان آخر ، فإنه قد يكون الشيء داخلاً في اسم الربا والميسر ، والإنسان لا يعلم ذلك إلا بدليل يدل على ذلك شرعي أو غيره ...
وبالجملة فالحاجة إلى معرفة هذه الحدود ماسّة لكل أمة ، وفي كل لغة ، فإن معرفتها من ضرورة التخاطب الذي هو النطق الذي لا بد منه لبني آدم ) ([40])
2. وقال رحمه الله : (وما مِن أهلِ فنّ إلا وهم معترفون بأنهم يَصطلحون على ألفاظ يتفاهمون بها مرادَهم، كما لأهل الصناعات العملية ألفاظٌ يعبرون بها عن صناعتهم، وهذه الألفاظُ هي عُرفية عرفًا خاصًّا، ومرادُهم بها غير المفهوم منها في أصل اللغة، سواء أكان ذلك المعنى حقاً أو باطلاً ) ([41]).
3. وقال عن معرفة اصطلاحات المتفلسفة : (لا ريب أن القوم لهم أوضاع واصطلاحات ، كما لكل أمة ولكل أهل فن وصناعة ، ولغتهم في الأصل يونانية ، وإنما ترجمت تلك المعاني بالعربية ، ونحن نحتاج إلى معرفة اصطلاحهم لمعرفة مقاصدهم ، وهذا جائز ، بل حسن ، بل قد يجب أحياناً ، كما أمر النبي زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود ، وقال : لا آمنهم ) ([42]).
4. ويقول رحمه الله : (وأكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء، وفي ذلك من فساد العقل والدين ما لا يعلمه إلا الله -تعالى- ، فإذا رَدَّ الناسُ ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة ؛ فالمعاني الصحيحة ثابتة فيها ، والمحق يمكنه بيان ما يقوله من الحق بالكتاب والسنة ). ([43]) فبسبب الاشتراك والإجمال في الأسماء يحصل الاشتباه ومن ثَمَّ الاختلاف بين العقلاء في المراد بها ، فيحتاجون حينئذٍ إلى ما يزيل الاشتباه والإجمال بالرجوع إلى المراد منه في الكتاب والسنة .
ولم يقتصر جهد شيخ الإسلام على التنبيه على أهمية هذا الموضوع في المستوى النظري فحسب ؛ بل بذل جهوداً عظيمة عملية في تحرير المصطلحات الشرعية وبيانها ، وبخاصة ما يتعلق منها بأصول الدين ، والرد على من أخطأ فيها ، جديرة أن تجمع على حدة وتبرز في بحوث علمية جادة تبين جهود هذا الإمام في هذا المجال ، فهي ثروة علمية لها أثر كبير على من جاء بعده إلى يومنا هذا .
وهذا تلميذه ابن القيم (ت:751هـ) رحمه الله، له جهود عظيمة لا تقل عن جهود شيخه في التنبيه على أهمية تحرير المصطلحات والحدود الشرعية ، يقول رحمه الله : (مِن أشرف العلوم وأنفعها علم الحدود ، ولا سيما حدود المشروع المأمور والمنهي ، فأعلم الناس أعلمهم بتلك الحدود حتى لا يدخل فيها ما ليس منها ، ولا يخرج منها ما هو داخل فيها ، قال تعالى : )الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ( فأعدل الناس من قام بحدود الأخلاق والأعمال والمشروعات معرفة وفعلاً ، وبالله التوفيق)([44])
ويقول : (ومعلوم أن الله سبحانه حد لعباده حدود الحلال والحرام بكلامه ، وذم من لم يعلم حدود ما أنزل الله على رسوله ، والذي أنزله هو كلامه ، فحدود ما أنزله الله هو الوقوف عند حد الاسم الذي علق عليه الحل والحرمة ، فإنه هو المنزل على رسوله ، وحده بما وضع له لغة أو شرعاً ، بحيث لا يدخل فيه غير موضوعه ، ولا يخرج منه شيء من موضوعه ، ومن المعلوم أن حد البُر لا يتناول الخردل ، وحد التمر لا يدخل فيه البلوط، وحد الذهب لا يتناول القطن، ولا يختلف الناس أن حد الشيء ما يمنع دخول غيره فيه ويمنع خروج بعضه منه، وقد تقدم تقرير هذا وأعدناه لشدة الحاجة إليه، فإن أعلم الخلق بالدين أعلمهم بحدود الأسماء التي علق بها الحل والحرمة ، والأسماء التي لها حدود في كلام الله ورسوله ثلاثة أنواع؛ نوع له حد في اللغة كالشمس والقمر والبر والبحر والليل والنهار ، فمن حمل هذه الأسماء على غير مسماها أو خصها ببعضه أو أخرج منها بعضه فقد تعدى حدودها ، ونوع له حد في الشرع كالصلاة والصيام والحج والزكاة والإيمان والإسلام والتقوى ونظائرها ، فحكمها في تناولها لمسمياتها الشرعية كحكم النوع الأول في تناوله لمسماه اللغوي ، ونوع له حد في العرف لم يحده الله ورسوله بحد غير المتعارف ، ولا حد له في اللغة ، كالسفر والمرض المبيح للترخص والسفه ، والجنون الموجب للحجر ، والشقاق الموجب لبعث الحكمين ، والنشوز المسوغ لهجر الزوجة وضربها ، والتراضي المسوغ لحل التجارة ، والضرار المحرم بين المسلمين ، وأمثال ذلك ، وهذا النوع في تناوله لمسماه العرفي كالنوعين) ([45])
ويقول : (وهذا باب شريف يُنتفع به انتفاعاً عظيماً في فهم ألفاظ القرآن ودلالته ، ومعرفة حدود ما أنزل الله على رسوله ، فإنه هو العلم النافع ، وقد ذم الله تعالى في كتابه من ليس له علم بحدود ما أنزل الله على رسوله ، فإن عدم العلم بذلك مستلزم مفسدتين عظيمتين :
إحداهما : أن يدخل في مسمى اللفظ ما ليس منه فيحكم له بحكم المراد من اللفظ فيساوي بين ما فرق الله بينهما .
والثانية : أن يخرج من مسمى اللفظ بعض أفراده الداخلة تحته فيسلب عنه حكمه ، فيفرق بين ما جمع الله بينهما .
والذكي الفطن يتفطن لأفراد هذه القاعدة وأمثالها فيرى أن كثيرا من الاختلاف أو أكثره أنما ينشأ من هذا الوضع ، وتفصيل هذا لا يفي به كتاب ضخم) ([46])
ويقول القلقشندي (ت:821ه) رحمه الله : (معرفة المصطلح هي اللازم المحتم ، والمهم المقدم ؛ لعموم الحاجة إليه واقتصار القاصر عليه)([47]) .
ويقول التهانوي (ت:+1158هـ) رحمه الله ، مؤلف كشاف اصطلاحات الفنون : (إنّ أكثر ما يحتاج به في تحصيل العلوم المدوّنة والفنون المروّجة إلى الأساتذة ؛ هو اشتباه الاصطلاح ، فإنّ لكل علم اصطلاحاً خاصاً به ، إذا لم يُعلم بذلك لا يتيسّر للشارع فيه الاهتداء إليه سبيلاً، وإلى انفهامه دليلاً) ([48])
ومن أئمة الدعوة السلفية في نجد الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ (ت:1292هـ) رحمه الله يقول : (اعلم أن من تصور حقيقة أي شيء على ما هو عليه في الخارج ، وعرف ماهيته بأوصافها الخاصة عرف ضرورة ما يناقضه ويضاده، وإنما يقع الخفاء بلبس إحدى الحقيقتين، أو بجهل كلا الماهيتين، ومع انتفاء ذلك وحصول التصور التام لهما لا يخفى ولا يلتبس أحدهما بالآخر، وكم هلك بسبب قصور العلم وعدم معرفة الحدود والحقائق من أمة، وكم وقع بذلك من غلط وريب وغمة، مثال ذلك: أن الإسلام والشرك نقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، والجهل بالحقيقتين أو إحداهما أوقع كثيراً من الناس في الشرك وعبادة الصالحين، لعدم معرفة الحقائق وتصورها) ([49])
وقال مخاطباً بعض الناس : (لو عرفتَ حدودَ ما أنزل الله على رسوله، وعرفتَ الإيمانَ بحده الشرعي، والتوحيدَ بحده، لظهر لك أن المعرفة لا تقتضي الإيمان والتوحيد) ([50]).
يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي (1376ه) رحمه الله (العلم النافع الذي هو أنفع العلوم ، معرفة حدود ما أنزل اللّه على رسوله، من أصول الدين وفروعه، كمعرفة حدود الإيمان، والإسلام، والإحسان، والتقوى، والفلاح، والطاعة، والبر، والصلة، والإحسان، والكفر، والنفاق، والفسوق، والعصيان، والزنا، والخمر، والربا، ونحو ذلك. فإن في معرفتها يُتمكن من فعلها -إن كانت مأمور [ اً ] بها، أو تركها إن كانت محظورة- ومن الأمر بها أو النهي عنها). ([51])
وفي تراث أئمة الدعوة السلفية النجدية تحريراتٌ هامة لكثير من الألفاظ الشرعية العقدية ، مثل : الإيمان والكفر والتوحيد والشرك والولاء والبراء والوسيلة والتوسل والتبرك ، وغيرها من المصطلحات التي كثر اهتمامهم بها لمسيس الحاجة إليها في زمانهم ، وفي الاعتناء بها إبرازٌ لجهودهم ، وإيضاحٌ لفكرهم ، ورد على من يتهمهم بما ليس فيهم ، ويقوّلهم ما لم يقولوا ، فقد ابتلوا بمحبٍّ غالٍ ومبغض قالٍ.
وممن فطن لأهمية تحرير المصطلح العقدي وإزالة الاشتباه عنه ، الشيخ عبد الرحمن المعلمي (ت:1386ه) رحمه الله ؛ لما رأى من عظيم الفائدة في بيان الحقائق الشرعية ، وبناء الأحكام عليها ، فقد قال في مقدمة كتابه رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله : (إني تدبرت الخلاف المستطير بين الأمة في القرون المتأخرة في شأن الاستغاثة بالصالحين الموتى، وتعظيم قبورهم ومشاهدهم ، وتعظيم بعض المشايخ الأحياء، وزعم بعض الأمة في كثير من ذلك أنه شرك، وبعضها أنه بدعة، وبعضهما أنه من الحق، ورأيت كثيرا من الناس قد وقعوا في تعظيم الكواكب والروحانيين والجن ما يطول شرحه، وبعضه موجود في كتب التنجيم والتعزيم ، كشمس المعارف وغيره، وعلمت أن مسلماً من المسلمين لا يقدم على ما يعلم أنه شرك، ولا على تكفير ما يعلم أنه غير كافر، ولكنه وقع الاختلاف في حقيقة الشرك، فنظرت في حقيقة الشرك فإذا هو بالاتفاق اتخاذ غير الله –U- إلهاً من دونه، أو عبادة غير الله –U-، فاتجه النظر إلى معنى الإله والعبادة، فإذا فيه اشتباه شديد,... فعلمت أن ذلك الاشتباه هو سبب الخلاف ، وإذا الخطر أشد مما يظن ؛ لأن الجهل بمعنى إله يلزمه الجهل بمعنى كلمة التوحيد لا إله إلا الله وهي أساس الإسلام وأساس جميع الشرائع الحقة من قبل ) ([52])
ونظراً لهذه الأهمية العظمى لتحرير المصطلحات في إدراك العلوم فقد تتابع أهل العلم على مر العصور على العناية بها تحريراً وتدويناً ، كلٌ فيما يخص فنَّه وعلمه، فظهرت مصطلحات الفقهاء والمحدثين واللغويين والقراء والمجودين والفلاسفة والمتكلمين ، فضلاً عن معاجم اللغة ، وبلغت حداً يفوق الحصر ، وأصبحت دراسة المصطلح العلمي فناً وعلماً قائماً بنفسه ، له أسماء متعددة وألقاب متنوعة ، منها القديم ومنها الحديث ، مثل : الحدود ، والتعريفات ، والاصطلاحات، ولغة العلم ، والأسباب أو الألفاظ الإسلامية ، وعلم الدلالة ، وغيرها. ([53])
ولما كان علم العقيدة أشرف العلوم وأعظمها لتعلقه بالله تعالى ، وشرف العلم من شرف المعلوم ؛ كان تحرير مصطلحاته أولى المصطلحات بالعناية من غيره ، لشرفه وعظيم قدره ، وسمو مكانته ، وتعلقه بأشرف العلوم وأجلها ، ولما ينبني عليها من أحكام تهم المكلف في خاصة نفسه ، وفي علاقته بغيره ، فلفظ (الإيمان) مثلاً ، هل يراد به ما في القلب فقط كما هو مذهب مرجئة المتكلمين ؟ أو يراد به ما في القلب واللسان كما هو مذهب مرجئة الفقهاء ؟ أو هو شامل لما في القلب واللسان والجوارح كما هو مذهب السلف ؟ لذا كان لزاماً تحرير هذا المصلح الشرعي بجمع نصوصه في جميع مواردها ، وبيان ما دلت عليه ، ورد شبهات وأغاليط المخالفين لفهم السلف لهذا المصلح الشريف .
والشأن نفسه مع لفظ (الكفر) المقابل للفظ (الإيمان) ، هل هو محصور بما في القلب فقط، والظواهر الكفرية تكون دليلاً عليه ؟ أم هو يتنوع فتارة يكون بالقلب وتارة يكون باللسان وتارة يكون بالجوارح ؟ كل ذلك قد قيل ، فيحتاج إلى تحرير حسب قواعد السلف المنهجية والعلمية ، وبيان معناه حسبما ورد في النصوص الشرعية ، لا وفق أصول تخالف الأصول الشرعية ، ولفظتا الإيمان والكفر هما أساس الألفاظ الشرعية في باب الاعتقاد ، وعلى تحريرها تبنى أحكام شرعية ، فيقال مؤمن وكافر ، فيأخذ كل منهما حكمه ، وقس على هذين اللفظين غيرهما من ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها ، كلفظ التوحيد والشرك ، والسنة والبدعة ... إلخ
والشأن نفسه مع بعض المصطلحات الفكرية المعاصرة المضللة ، مثل : الدولة المدينة والدولة الدينية ، والمجتمع المدني والمجتمع الديني ، والديمقراطية ، والتسامح ، والحرية ، والمساواة ... وغيرها من المصطلحات التي تحتاج إلى ضبط وبيان وإيضاح وفق قواعد أهل العلم ومناهجهم ، لا وفق بيئاتها التي ولدت فيها.
ومع أهمية مصطلحات العقيدة إلا أن اللافت للنظر أن المصطلحات العقدية لم تحظ بالعناية الكافية من التأليف والجمع والتصنيف كما هو الشأن في بقية العلوم ، باستثناء ما قام به المتكلمون الذين دونوا مصطلحاتهم الكلامية في مؤلفات خاصة ، أما علماء السنة فلا أعلم لهم من الجهود في جمع وتصنيف مصطلحات العقيدة مثل ما لغيرهم من علماء الفنون الأخرى ، مع العلم أن مصطلحاتهم محررة ، ولكنها مبثوثة ومنثورة في كتبهم ، تنتظر من يجمع شتاتها ويقوم بترتيبها وتحريرها وضبطها .
وإن مما يبعث على السرور ظهور محاولات معاصرة –وإن كانت متواضعة- لجمع مصطلحات أهل السنة في العقيدة ، إلا أنها دون المستوى المنشود ، ومن تلك المحاولات ما تقوم به جمعية علوم العقيدة بالجامعة الإسلامية في المدينة النبوية ، وبعض الجهود الفردية التي ظهرت في شكل معاجم ، مثل : التعريفات الاعتقادية لسعد آل عبد اللطيف ، وكتاب المصطلحات العقدية في القرآن والسنة للدكتور توفيق الواعي ، وقاموس العقيدة للدكتورين محمد أحمد الحاج وبسام علي العموش ، ومعجم ألفاظ العقيدة لعامر عبد الله فالح ([54])، وهناك أيضاً عدد من الرسائل الجامعية في هذا الباب في جامعة أم القرى وجامعة الإمام .
وأما على المستوى التنظيري التأصيلي للمصطلح العقدي فيوجد دراسات متعددة ، لا تزال بحاجة إلى تجويد وإتقان وتطوير وإكمال ، وعسى أن تتاح لنا فرصة أخرى في استعراض هذه الجهود وتقييمها في دراسة مستقلة إن شاء الله .
والله الموفق
([1]) لمعرفة فوائد الاصطلاح العلمي يُنظر: المواضعة في الاصطلاح لبكر أبو زيد (148) ، الاختلاف في الاصطلاحات العقائدية والفكرية لحسن العايدي (25-29)
([13]) انظر – على سبيل المثال- صحيح البخاري (ح/733 ط: المكنز) وانظر: تفسير المنار (11/8) وغيره من كتب التفسير عند هذه الآية .
([14]) انظر–مثلاً- : صحيح البخاري (ح/1413 ، 3102 ، 3075، وغيرها ، ط: المكنز) وانظر زاد المعاد لابن القيم (1/119).
([25]) لمعرفة بيان الصحابة لكثير من ألفاظ العقيدة تراجع رسالة أقوال الصحابة المسندة في العقيدة د. هشام الصيني .
([35]) أخرجه اللالكائي في شرح أصول السنة (4/625) وابن بطة في الإبانة (القدر 2/159برقم 1618و1619و1624 ط: الراية)
([36]) جمعها بعض أهل العلم قديماً ، وذكرتها بعض كتب علوم القرآن كالإتقان للسيوطي ، وضمنها محمد فؤاد عبد الباقي في كتابه : معجم غريب القرآن مستخرجاً من صحيح البخاري. وجمعها بشكل مميز الدكتور محمد الدالي في كتابٍ سماه : مسائل نافع بن الأزرق عن عبد الله ابن عباس.