Loading ...

القول المفصل المحرر في حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -أ. عباس بن محمد

 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد؛

فهذا بحث مفصل محرر في حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -تلك الشعيرة العظيمة من شعائر الإسلام- فيه تحقيق وتحرير جديد لبعض المسائل التي أرى أنه حصل فيها غلط ولبس من كثير من المعاصرين.. والحمد لله وحده أولًا وآخرًا ظاهرًا وباطنًا، فلا حول ولا قوة لنا إلا به..

والآن أوان الشروع في المقصود، فنقول مستعينين بالله الواحد المعبود:

1- أجمع أهل العلم على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الجملة.

قال أبو بكر الجصاص: أكد الله -تعالى- فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مواضع من كتابه، وبينه رسول الله r في أخبار متواترة عنه فيه، وأجمع السلف وفقهاء الأمصار على وجوبه، وإن كان قد تعرض أحوال من التقية يسع معها السكوت. ([1])

وقال الجويني: أطبق الكتاب والسنة والإجماع على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمراد بالمعروف: الواجب، والمنكر: الحرام، وإلا فالأمر بالمندوب أو النهي عن المكروه ليس بواجب، بل مندوب. ([2])

وقال الغزالي: الباب الأول في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفضيلته والمذمة في إهماله وإضاعته: ويدل على ذلك بعد إجماع الأمة عليه وإشارات العقول السليمة إليه الآيات والأخبار والآثار. ([3])

وقال ابن حزم: اتفقت الأمة كلها على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف من أحد منهم؛ لقول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] ثم اختلفوا في كيفيته. ([4])

وقال النووي: أما قوله r: ((فليغيره)) فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة، وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وهو أيضا من النصيحة التي هي الدين، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الرافضة، ولا يعتد بخلافهم كما قال الإمام أبو المعالي إمام الحرمين: لا يكترث بخلافهم في هذا؛ فقد أجمع المسلمون عليه قبل أن ينبغ هؤلاء، ووجوبه بالشرع لا بالعقل خلافا للمعتزلة. ([5])

وقال ابن دقيق العيد: قوله: (فليغيره)، أمر إيجاب بإجماع الأمة، وقد تطابق الكتاب والسنة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أيضًا من النصيحة التي هي الدين. ([6])

وقال ابن تيمية: يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب إظهار السنة والشريعة والنهي عن البدعة والضلالة بحسب الإمكان كما دل على وجوب ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة. ([7])

وقال الشوكاني: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثابت بالكتاب والسنة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة، وأصل عظيم من أصولها، وركن مشيد من أركانها، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها. ([8])

2- وأجمعوا على أن إنكار المنكر بالقلب متعينٌ على كل من شهده، أو علم به؛ إذ لا ضرر عليه في ذلك، ولا يلحقه عجزٌ، أو إكراهٌ، أو مفسدةٌ غالبة.

وقد دل على ذلك قول النبي r في حديث أبي سعيد الخدري t: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) ([9]) فلم يعلق النبي r  وجوب الإنكار بالقلب على الاستطاعة -كما في اليد واللسان-؛ إذ هي متحققة فيه لا محالة؛ فإن ما يعرض للإنكار باليد واللسان من العجز أو خوف المفسدة الغالبة أو الإكراه، فيعذر بتركه المكلف = لا يعرض للقلب ولا يصح فيه.

وكذا لأنه ليس دون إنكار المنكر بالقلب إلا الرضا به، ولذلك كان آخر مراتب الإيمان والطاعة، ففي حديث ابن مسعودt  أن النبي r قال: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده، فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه، فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه، فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) ([10]) فجعل النبي r الإنكار بالقلب آخر مراتب الإيمان التي ليس دونها حبة خردل منه؛ إذ ليس دون الإنكار بالقلب إلا الرضا به، والرضا بالمنكر ليس من الإيمان، بل هو إما معصية، أو كفر إن استحل ذلك.

وأيضًا: فإن الله حبب للمؤمنين طاعته وكرههم معصيته، فكراهة المعصية - وهو إنكارها بالقلب – من الإيمان. قال الله U: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7] وواجب على كل مؤمن محبة ما أحبه مولاه وكراهة ما كرهه.

قال ابن رجب -تعليقًا على الحديثين السابقين وغيرهما مما ساقه-: فدلت هذه الأحاديث كلها على وجوب إنكار المنكر بحسب القدرة عليه، وأن إنكاره بالقلب لا بد منه، فمن لم ينكر قلبه المنكر دل على ذهاب الإيمان من قلبه. وقد روي عن أبي جحيفة t قال: قال علي: (إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد: الجهاد بأيديكم، ثم الجهاد بألسنتكم، ثم الجهاد بقلوبكم، فمن لم يعرف قلبه المعروف، وينكر قلبه المنكر، نكس فجعل أعلاه أسفله) وسمع ابنُ مسعود رجلًا يقول: هلك من لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر، فقال ابن مسعود: (هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر) يشير إلى أن معرفة المعروفِ والمنكرِ بالقلب فرضٌ لا يسقط عن أحدٍ، فمن لم يعرفه هلك. وأما الإنكار باللسان واليد، فإنما يجب بحسب الطاقة، وقال ابن مسعود: (يوشك من عاش منكم أن يري منكرا لا يستطيع له غير أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره). وفي سنن أبي داود ([11]) عن العُرْس بن عميرة، عن النبي r قال: (إذا عملت الخطيئة في الأرض، كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها) فمن شهد الخطيئة فكرهها بقلبه، كان كمن لم يشهدها إذا عجز عن إنكارها بلسانه ويده، ومن غاب عنها فرضيها، كان كمن شهدها وقدر على إنكارها ولم ينكرها؛ لأن الرضا بالخطايا من أقبح المحرمات، ويفوت به إنكار الخطيئة بالقلب، وهو فرض على كل مسلم، لا يسقط عن أحد في حال من الأحوال. ([12]).

وقال السفاريني بعد أن ساق كلام ابن رجب السابق: فأفهمَنا كلامه -رضوان الله عليه- بأن قولهم: (إنكار المنكر فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقي).. مرادهم الإنكار باليد واللسان اللذين يحصل تغيير المنكر بهما، أو بأحدهما. وأما الإنكار بالقلب ففرض عين على كل مسلم. وهذه فائدة ينبغي التفطن لها. ([13])

وقال شيخ الإسلام: إذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضلال. وذلك يكون تارة بالقلب، وتارة باللسان، وتارة باليد. فأما القلب فيجب بكل حال؛ إذ لا ضرر في فعله، ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن، كما قال النبي r: (وذلك أدنى -أو أضعف- الإيمان) وقال: (ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) وقيل لابن مسعود: (من ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا) وهذا هو المفتون الموصوف في حديث حذيفة بن اليمان ([14]).

وقال ابن رجب: دلت هذه الأحاديث كلها على وجوب إنكار المنكر بحسب القدرة عليه، وأما إنكاره بالقلب فلا بد منه، فمن لم ينكر قلبه المنكر دل على ذهاب الإيمان من قلبه، وقد روي عن أبي جحيفة قال: قال عليٌّ: «إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد: الجهاد بأيديكم، ثم الجهاد بألسنتكم، ثم الجهاد بقلوبكم، فمن لم يعرف قلبُه المعروفَ، وينكر قلبه المنكر، نكس فجعل أعلاه أسفله» وسمع ابن مسعود رجلًا يقول: هلك من لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر. فقال ابن مسعود: «هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر» يشير إلى أن معرفة المعروف والمنكر بالقلب فرض لا يسقط عن أحد، فمن لم يعرفه هلك. وأما الإنكار باللسان واليد فإنما يجب بحسب الطاقة، وقال ابن مسعود: «يوشك من عاش منكم أن يري منكرًا لا يستطيع له غير أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره» وفي سنن أبي داود عن العرس بن عميرة عن النبي ‘ قال: (إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها) فمن شهد الخطيئة فكرهها في قلبه كان كمن لم يشهدها إذا عجز عن إنكارها بلسانه ويده، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها وقدر على إنكارها ولم ينكرها؛ لأن الرضا بالخطايا من أقبح المحرمات، ويفوت به إنكار الخطيئة بالقلب، وهو فرض على كل مسلم لا يسقط عن أحد في كل حال من الأحوال، وخرج ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة ¢ عن النبي ‘ قال: (من حضر معصية فكرهها فكأنه غاب عنها، ومن غاب عنها فأحبها فكأنه حضرها) وهذا مثل الذي قبله. فتبين بهذا أن الإنكار بالقلب فرض على كل مسلم في كل حال وأما الإنكار باليد واللسان فبحسب القدرة. ([15])

وقال ابن حزم: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على كل مسلم إن قدر بيده فبيده، وإن لم يقدر بيده فبلسانه، وإن لم يقدر بلسانه فبقلبه ولا بد، وذلك أضعف الإيمان، فإن لم يفعل فلا إيمان له. ومن خاف القتل أو الضرب أو ذهاب المال، فهو عذر يبيح له أن يغير بقلبه فقط، ويسكت عن الأمر بالمعروف وعن النهي عن المنكر فقط. ولا يبيح له ذلك: العون بلسانٍ أو بيدٍ على تصويب المنكر أصلًا، لقول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} [الحجرات: 9] وقال ¸: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]. ([16])

وقال شهاب الدين النفراوي: اعلم أن فرضية الأمر والنهي على الكفاية، إنما هي عند الأمر باليد، أو اللسان، وأما بالقلب ففرض عين ([17])

وقال ابن عقيل الحنبلي: والذي يصح الإكراه عليه إنما هو أفعال الجوارح الظاهرة المشاهدة التي يتسلط عليها التصريف في المرادات من الأفعال، فتقع أفعالها بحسب الإلجاء إلى أحد الدواعي. فأما الإكراه على ما غاب وبطن من القلوب، فلا، فعلى هذا: لا يصح أن يكره الإنسان على اعتقاد مذهب، أو علم بمعلوم لم يعلمه، أو بظن مما لم يتحصل له طريقه، أو عزم على ما لا يعرف، أو الجهل، قال سبحانه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل: 106] يعني: من اعتقد الكفر، وإنما لم يعف عن أعمال القلوب ها هنا؛ لأن الإكراه لم يتسلط عليها، ويلحق بهذا أن العلم والجهل والظن وغير ذلك من أعمال القلوب كالمحبة والبغض والألفة والإعجاب والخوف والحزن والمسرة والغم لا يتحصل بالاستمالة كما لم يتحصل بالإكراه، فالإنسان لا يجهل ما علمه، ولا يعلم ما يجهله بالرشوة والاستمالة، لكن يتبع في القول، ويقلد بالنطق من يستميله، والقلب بحاله لا يغيره إلا المعاني التي يصل عملها إليه، كالأدلة والبراهين أو الشبه وما شاكل ذلك. ([18])

وقال الباقلاني: اعلموا أن الإكراه لا يصح إلا على أفعال الجوارح المشاهدة، والمعلوم وقوعها إذا وقعت، والانصراف عنها إذا تركت، فأما الإكراه على ما غاب ويظن من أفعال القلوب فلا يجوز أن يكره العبد على علم بشيء أو جهل به أو حب له أو بغض أو اعتقاد وعزم، فذلك محال لا سبيل إليه. ([19])

أما الإجماع على ذلك، فقد نقله غير واحد:

قال ابن عبد البر: أجمع المسلمون أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه، وإنه إذا لم يلحقه في تغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى، فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره بيده، فإن لم يقدر فبلسانه، فإن لم يقدر فبقلبه، ليس عليه أكثر من ذلك، وإذا أنكره بقلبه، فقد أدى ما عليه إذا لم يستطع سوى ذلك. والأحاديث عن النبي r في تأكيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدا، ولكنها كلها مقيدة بالاستطاعة. ([20])

وقد ذكرنا أن الإنكار بالقلب يستطيعه كل أحد، ولذلك شرطه الله ¸ لبقاء إيمان العبد إذا أكره على الكفر.

وقال ابن حزم: اتفقوا في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقلوب ([21]).

3- وخالفت المعتزلة في ذلك فلم توجب فعل الكراهة، وقصروا الواجب على ألا يريد بقلبه المنكر، فمتى لم يُرد سقط عنه الحرج، ولا تلزمه الكراهة بقلبه!! وفي هذا -كما لا يخفى- مصادمة للنصوص القطعية -وكذا إجماع أهل العلم- الموجبة لفعل الكراهة.

أضف إلى ذلك أن عدم إرادة المنكر قد لا يكون باعثه -في كثير من الأحيان- كون الشيء منكرا، بل قد يكون لطبعٍ وعدم ميل جبليٍّ لهذا المنكر، لا استسلاما لحكم الشارع وانقيادا له.

ولهذا فمثل هذا الرجل لو تغير طبعه وميله لما تردد في إتيان ذلك القبيح، فضلًا أنه لن يجد -على كل حال- غضاضة في مواقعة غيره لهذا المنكر، وكفى بهذا إثمًا وقبحًا.

وهذا الفعل القلبي (الكراهة) عبادة شرعية مأمور بها في ذاتها، وهي أمر زائد على مجرد عدم الإرادة، فلا يستويان، وشرط قبولها أن تكون خالصة لله ¸ وحده، وإلا ردت على صاحبها ولم تقبل، فكيف لو كان الأمر برمته لا يصحبه كراهة شرعية، لهذا المنكر ولم يتغير برؤيته، أو سماعه القلب؟!

قال ابن مفلح: قال القاضي: ويجب فعل الكراهة للمنكر كما يجب إنكاره. وعند المعتزلة: إنما يجب ألا يفعل الإرادة؛ لأنه قد يخلو المكلف من فعل الإرادة له والكراهة(!!)، وهذا غلط؛ لأنه لا يصح أن يخلو من فعل الضدين؛ ولأن الشارع أوجب عليه فعل الكراهة بقلبه ([22]).

وقال شيخ الإسلام: وأصل هذا: أن تكون محبة الإنسان للمعروف وبغضه للمنكر وإرادته، لهذا وكراهته، لهذا = موافقا لحب الله وبغضه وارادته وكراهته الشرعيتين، وأن يكون فعله للمحبوب ودفعه للمكروه بحسب قوته وقدرته؛ فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وقد قال: {فاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]

أما حب القلب وبغضه وإرادته وكراهته = فينبغي أن تكون كاملة جازمة، لا يوجب نقص ذلك إلا نقص الإيمان. وأما فعل البدن = فهو بحسب قدرته.

ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة تامة، وفعل العبد معها بحسب قدرته = فإنه يعطى ثواب الفاعل الكامل؛ فإن من الناس من يكون حبه وبغضه وإرادته وكراهته بحسب محبته نفسه وبغضها، لا بحسب محبة الله ورسوله وبغض الله ورسوله، وهذا من نوع الهوى، فإن اتبعه الإنسان، فقد اتبع هواه {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] فإن أصل الهوى هو محبة النفس، ويتبع ذلك بغضها. والهوى نفسه -وهو الحب والبغض الذي في النفس- لا يلام العبد عليه؛ فإن ذلك لا يملكه، وإنما يلام على اتباعه...

فالواجب على العبد أن ينظر في نفس حبه وبغضه، ومقدار حبه وبغضه: هل هو موافق لأمر الله ورسوله؟، وهو هدى الله الذي أنزله على رسوله؛ بحيث يكون مأمورا بذلك الحب والبغض. ولا يكون متقدما فيه بين يدي الله ورسوله؛ فإنه قد قال: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] ومن أحب أو أبغض قبل أن يأمره الله ورسوله = ففيه نوع من التقدم بين يدي الله ورسوله.

ومجرد الحب والبغض = هوى، لكن المحرم اتباع حبه وبغضه بغير هدى من الله؛ ولهذا قال: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [ص: 26] فأخبر أن من اتبع هواه، أضله ذلك عن سبيل الله، وهو هداه الذي بعث به رسوله، وهو السبيل إليه.

وتحقيق ذلك: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من أوجب الأعمال وأفضلها وأحسنها، وقد قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7] وهو كما قال الفضيل بن عياض - رحمه الله - أخلصه وأصوبه، فإن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا = لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا. والخالص: أن يكون [لله] والصواب: أن يكون على السنة. فالعمل الصالح لا بد أن يراد به وجه الله تعالى، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه وحده؛ كما في الصحيح عن النبي ‘ قال: (يقول الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري، فأنا بريء منه، وهو كله للذي أشرك) وإذا كان هذا حد كل عمل صالح: فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يجب أن يكون هكذا في حق نفسه ([23])

وقال أيضًا: الإرادة والمحبة إذا كانت بغير علم وشرع كانت من جنس محبة الكفار وإرادتهم، فهؤلاء السالكون المريدون الصوفية والفقراء الزاهدون العابدون الذين سلكوا طريق المحبة والإرادة إن لم يتبعوا الشرع المنزل والعلم الموروث عن النبي r فيحبون ما أحب الله ورسوله ويبغضون ما أبغض الله ورسوله، وإلا أفضى بهم الأمر إلى شعب من شعب الكفر والنفاق. ولا يتم الإيمان والمحبة لله إلا بتصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما أمر..، ومن الإيمان بما أمر فعل ما أمر، وترك ما حظر، ومحبة الحسنات وبغض السيئات ولزوم هذا الفرق إلى الممات.

فمن لم يستحسن الحسن المأمور به ولم يستقبح السيئ المنهي عنه لم يكن معه من الإيمان شيء. كما قال r في الحديث الصحيح: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) وكما قال في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله r قال: (ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده، فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه، فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه، فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) رواه مسلم. فأضعف الإيمان الإنكار بالقلب، فمن لم يكن في قلبه بغض المنكر الذي يبغضه الله ورسوله لم يكن معه من الإيمان شيء. ([24])

وقال أيضا: (... وأصل هذا أن الذي لم يرد الفعل المحرم به = عليه أن يبغضه بغضًا تامًّا يقترن به فعل المقدور من الدفع، فإذا لم يوجد ذلك، فهو تارك لما وجب عليه من البغض والدفع.

وهل يكون مريدا له؟ فالمزني به من غير فعل ولا إرادة ولا كمال بغض ودفع هل يقال: إنه مريد زان؟ وهل يقال عن المقتول من غير فعل منه ولا إرادة ولا كمال بغض ودفع: إنه مريد لقتل نفسه قاتل لها؟ أو يقال: بل ليس بمبغض ولا ممتنع؟ وهل انتفاء البغض والامتناع مستلزم للإرادة والفعل؟

وسبب الاشتباه: أن الإنسان قد يخلو عن إرادة الشيء وكراهته، وحبه وبغضه كما يخلو عن التصديق بالشيء والتكذيب له، فكم من أمور يحبها من وجه ويبغضها من وجه

فالأقسام أربعة: إما مراد، وإما مكروه، وإما مراد مكروه، وإما غير مراد ولا مكروه، ولكن إذا كان المقتضى لإرادة المقدور قائما، فإنما يوجب وجود إرادته وفعله إلا لمانع، وكذلك، إذ كان المقتضى لبغض فعل المحرم به والامتناع من ذلك قائما، فإذا لم يوجد البغض والامتناع، فلا بد من معارض مانع، وذلك هو المقتضى للإرادة والتمكين، فالإنسان قد لا يريد الشيء ولا يكرهه لعدم سبب الإرادة والكراهة فأما مع وجود المقتضى، فلا بد من وجود مقتضاه إلا لمانع فلهذا من لم يبغض ولم يمتنع عن فعل المحرم به مع قدرته على الامتناع، فإنه يكون مريدا فاعلا، ولهذا يقال: إنه مطاوع، وإن كان قد يجتمع في قلبه البغض لذلك والإرادة باعتبارين كما يجتمع في قلب المكره على الشيء إرادة فعل المكره عليه وكراهة ذلك باعتبارين، فمن أوجر طعاما محرما يقدر على الامتناع منه فلم يفعل، أو فعل به فاحشة يقدر على الامتناع منها فلم يفعل = كانت معصيته بترك ما وجب عليه من الكراهة والامتناع وبفعل ما نهى من الإرادة والمطاوعة ولا يكون غير مريد ولا فاعل إلا اذا كان كارها تام الكراهة، وذلك يوجب فعل المقدور عليه من الامتناع، فأما إذا كان كارها كراهة قاصرة، فإن الإرادة تصحب مثل هذه الكراهة وفي مثل هذا يصحبها الفعل لا محالة؛ لأن المقتضى لكمال الكراهة قائم، وهو ما في ذلك من الحرمة والعقوبة، فإذا لم تحصل هذه الكراهة فإما لضعف المقتضى، وهو العلم بما في ذلك من الحرمة والعقوبة، وإما لوجود المانع، وهو نوع من الإرادة عارض للبغض، وسببه إما وجود لذة من الفعل، وإما رغبة في عوض، وإما رهبة أوجبت إرادة المكره، وحينئذ فيكون بمنزلة الفاعل لرغبة، أو رهبة لا يكون بمنزلة عديم الفعل) ([25])

وقال ابن الحاج: التغيير بالقلب هو ما يجده الإنسان في قلبه من البغض لذلك الفعل المرئي وانزعاجه إذ ذاك وقلقه ([26])

وقال ابن علان الشافعي: (فإن لم يستطع) ذلك بلسانه (فبقلبه) ينكره، بأن يكره ذلك ويعزم أن لو قدر عليه بقولٍ أو فعلٍ أزاله؛ لأنه يجب كراهة المعصية فالراضي بها شريك لفاعلها، وهذا واجب على كل أحد بخلاف اللذين قبله، ومنه يستفاد أن عدم إنكار القلب للمنكر دليل على ذهاب الإيمان منه، ومن ثم قال ابن مسعود: (هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر): أي لأن ذلك فرض كفاية لا يسقط عن أحد بحال، والرضا به من أقبح المحرمات ([27]).

وقال ابن حجر الهيتمي: ولا يسقط الإنكار بالقلب عن مكلف أصلا؛ إذ هو كراهة المعصية، وهو واجب على كل مكلف ([28]).

وقال ابن عبد البر: لا يلزم التغيير إلا من القوة والعزة والمنعة وأنه لا يستحق العقوبة إلا من هذه حاله.

وأما من ضعف عن ذلك = فالفرض عليه التغيير بقلبه والإنكار والكراهة؛ قال عبد الله بن مسعود: (بحسب المؤمن إذا رأى منكرا لا يستطيع له تغييرا أن الله يعلم من قلبه أنه له كاره) وروى الحسن عن ضبة بن محصن عن أم سلمة قال: قال رسول الله ‘: (يكون عليكم أمراء تعرفون وتنكرون فمن أنكر شيئا، فقد بريء، ومن كره، فقد سلم، ولكن من رضي وتابع فأبعده الله. قيل: يا رسول الله، أفلا نقتلهم؟ قال: لا ما صلوا) قال أبو عمر: يقولون: من رضي بالفعل فكأنه فعله. قال الحسن ¬: إنما عقر الناقة رجل واحد فعمهم الله بالعقوبة، لأنهم عموا فعله بالرضى.. ([29]).

وقال ابن الجوزي: وحد الاستطاعة في الإنكار: ألا يخاف المنكر سوطًا ولا عصا، فحينئذ يجب عليه التغيير باليد، فإن خاف السوط في تغييره باليد ولم يخفه في النطق انتقل الوجوب إلى الإنكار باللسان. فإن خاف انتقل إلى الإنكار بالقلب. والإنكار بالقلب هو كراهية ذلك الفعل، وتلك فريضة لازمة على كل حال ([30]).

وقال ابن القيم: الإنسان إنما يثاب على ترك السيئات إذا تركها على وجه الكراهة لها والامتناع عنها وكف للنفس عنها قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7] وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] وقال: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] وفي الصحيحين عنه ‘: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد، إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)، وقد جعل ‘ البغض في الله من أوثق عرى الإيمان -وهو أصل الترك- وجعل المنع لله من كمال الإيمان -وهو أصل الترك- فقال: (من أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله) وقال: (من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله، فقد استكمل الإيمان) وجعل إنكار المنكر بالقلب من مراتب الإيمان، وهو بغضه وكراهته المستلزم لتركه فلم يكن الترك من الإيمان إلا بهذه الكراهة والبغض، والامتناع والمنع لله، وكذلك براءة الخليل وقومه من المشركين ومعبودهم ليست تركًا محضًا، بل تركًا صادرًا عن بغض ومعاداة وكراهة هي أمور وجودية، هي عبودية للقلب؛ يترتب عليها خلو الجوارح من العمل، كما أن التصديق والإرادة والمحبة للطاعة من عبودية القلب يترتب عليها آثارها في الجوارح، وهذا الحب والبغض تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وهو إثبات تأله القلب لله ومحبته ونفي تألهه لغيره وكراهته، فلا يكفي أن يعبد الله ويحبه ويتوكل عليه وينيب إليه ويخافه ويرجوه حتى يترك عبادة غيره والتوكل عليه والإنابة إليه وخوفه ورجاه ويبغض ذلك وهذه كلها أمور وجودية، وهي الحسنات التي يثيب الله عليها.

وأما مجرد عدم السيئات من غير أن يعرف أنها سيئة ولا يكرهها بقلبه ويكف نفسه عنها، بل يكون تركها لعدم خطورها بقلبه، ولا يثاب على هذا الترك، فهذا تكون السيئات في حقه بمنزلتها في حق الطفل والنائم، لكن قد يثاب على اعتقاد تحريمها، وإن لم يكن له إليها داعية البتة. ([31])

وقال المناوي: ... (فبقلبه) ينكره وجوبًا، بأن يكرهه به، ويعزم أنه لو قدر بقول أو فعل = فعل. وهذا واجب عينًا على كل أحد ([32]).

وقال ابن باز: أما من عجز عن ذلك، لا يستطيع الإنكار لا باللسان ولا بالفعل، يخشى أن يضرب أو يقتل أو يسجن، لا يستطيع أن يتكلم في أي مكان، فإنه ينكر بقلبه، يكره المنكر بقلبه، ويفارق المكان، هذا الإنكار بالقلب، يكره بقلبه المنكر ويتغير، يعلم الله من قلبه إنكاره، والتغير عند رؤية المنكر، ويغادر المكان إذا استطاع أن يغادر المكان، غادر المكان وترك المكان، حتى لا يشاهد المنكر، هذا هو الإنكار بالقلب، كراهة المنكر وبغضه، ومحبة إزالته والمغادرة، إذا استطاع أن يغادر المكان حتى لا يشهد المنكر ([33]).

وقال الدكتور عبد الكريم زيدان: كره المنكر لا رخصة فيه، وإزالته حسب القدرة، ومما يجب أن يعلم أن كره المنكر يجب أن يكون كاملًا تامًّا؛ لأن الأصل في المؤمن أن يكون حبه موافقًا لحب الله، وبغضه موافقًا لما يبغضه الله، وأي نقص في هذه الموافقة في جانبيها أو في أحد جانبيها مرَدُّه نقص الإيمان قطعًا؛ لأنَّ بغض المنكر في القلب لا ضرر فيه مطلقًا، فمن لم يفعله - أي: لم يكره المنكر بقلبه - كان ذلك دليلًا على ضعف إيمانه، بل وموت قلبه وعدم إيمانه؛ لأنَّ الحديث ورد في آخره: (ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) بعد أن ذكر مراتب تغيير المنكر باليد واللسان والقلب. أمَّا إزالة المنكر باليد - أي: فعلًا - فهذه تكون بحسب القوة والقدرة، فإنَّ الله تعالى لا يكلِّف نفسًا إلّا وسعها، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ومتى كانت كراهية القلب للمنكر كاملة، وإرادته للتغيير كاملة، وفعل المسلم منها بحسب قدرته، أو لم يفعل لعجزه، فإنه يُعْطَى ثواب الفاعل. ([34])

4- وكذا أجمعوا -على التحقيق- أن الأمر بالمعروف الواجب، والنهي عن المنكر (المحرم) باليد واللسان واجب كفائي.

ودل على ذلك قوله U: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] و(من) في قوله U: {منكم} للتبعيض على الصحيح من أقوال أهل العلم، أي ولتكن منكم طائفة يقومون بهذه الوظيفة، فأوجب الله على الأمة أن تكون منها طائفة تقوم بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا هو الذي يسميه أهل العلم بالواجب الكفائي الذي إذا قام به في الأمة من يكفي سقط الوجوب عن مجموعها، وإلا أثم كل قادر ([35]) مفرط، كل بحسبه ([36]).

قال ابن كثير: يقول تعالى: {ولتكن منكم أمة}، أي: منتصبة للقيام بأمر الله، في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. والمقصود من هذه الآية: أن تكون فرقة من الأمة متصدية، لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله r: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) ([37]).

وقد نقل الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم.

قال النووي: أجمع العلماء على أنه [أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] فرض كفاية، فإن خاف من ذلك على نفسه، أو ماله، أو على غيره = سقط الإنكار بيده ولسانه، ووجبت كراهته بقلبه. هذا مذهبنا ومذهب الجماهير، وحكى القاضي هنا في بعضهم أنه ذهب إلى الإنكار مطلقا في هذه الحالة وغيرها ([38]).

وقال أيضًا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية بإجماع الأمة، وهو من أعظم قواعد الإسلام ([39]).

وقال شيخ الإسلام: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب علي الكفاية باتفاق المسلمين، وكل واحد من الأمة مخاطب بقدر قدرته، وهو من أعظم العبادات ([40]).

وقال نظام الدين النيسابوري: أجمعنا على أن ذلك [أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] واجب على الكفاية ([41]).

وقال الخطيب الشربيني: (و) من فروض الكفايات (الأمر بالمعروف) من واجبات الشرع (والنهي عن المنكر) من محرماته بالإجماع إذا لم يخف على نفسه، أو ماله، أو على غيره مفسدة أعظم من مفسدة المنكر الواقع، أو غلب على ظنه أن المرتكب يزيد فيما هو فيه عنادا ([42]).

وقال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث: الترغيب في ولاية القضاء لمن استجمع شروطه وقوي على أعمال الحق ووجد له أعوانا لما فيه من الأمر بالمعروف ونصر المظلوم وأداء الحق لمستحقه وكف يد الظالم والإصلاح بين الناس وكل ذلك من القربات؛ ولذلك تولاه الأنبياء، ومن بعدهم من الخلفاء الراشدين، ومن ثم اتفقوا على أنه من فروض الكفاية؛ لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه. ([43])

قلت: وولاية القضاء فرع عن الأمر بالمعروف؛ إذ هو مقصودها، بل هو مقصود جميع الولايات. ([44])

5- وما نقل عن بعض العلماء أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين = هو محمول -على التحقيق- على أنه يجب على كل مسلم في الجملة أن يكون آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر؛ إذ لا يتصور أن من قال ذلك أراد أنه يجب على كل من شهد منكرًا أن يغيره (بيده، أو لسانه) حتى لو كفاه غيره مؤنة ذلك. ومن تأمل كلام ابن كثير السابق بان له ذلك؛ فإنه بعد أن ذكر أن الأمر بالمعروف واجبٌ كفائي، ذكر أنه واجب على كل مسلم بحسبه ([45]).

ولا يصلح الاستدلال بقول من قال: «إن (من) ليست للتبعيض، وإنما هي صلة لبيان الجنس تعم الأمة كلها»؛ 1- لأنه وإن صح جعلها كذلك، فهي محمولة على ما سبق من أن الواجب يظل متعلِّقًا بالأمة في مجموعها ما لم تقم طائفة منها بكفايتها. 2- ولأنه لا يخلو أحدٌ في الغالب من تعلق الوجوب به تعلقًا عينيًّا في كثير من المواطن 3- وكذا لتعلق الوجوب العيني بجميعهم في إنكار القلب متى علم بمنكر، أو شهده.

قال الحجاوي: وهو فرضٌ على كل مسلم لا يسقط في حال من الأحوال، ويمكن للإنسان الإنكار في كل وقت بقلبه، فلذلك كان واجبًا على كل مسلم، لا يجوز أن يرضى بالمعصية ولو لم يقدر على إزالتها، فتبين بهذا أن الإنكار بالقلب فرض على كل مسلم في كل حال. ([46])

قال نظام الدين النيسابوري: واختلفوا في أن كلمة (من) في قوله: {منكم} للتبيين، أو للتبعيض. فذهب طائفة إلى أنها للتبيين؛ لأنه ما من مكلف إلا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إما بيده، أو بلسانه، أو بقلبه، وكيف لا، وقد وصفهم الله تعالى بذلك في قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] فهذا كقولك: لفلان من أولاده جند، وللأمير من غلمانه عسكر. وتريد جميع الأولاد والغلمان لا بعضهم. ثم قالوا: إن ذلك، وإن كان واجبًا على الكل إلا أنه متى قام به البعض سقط عن الباقين كسائر فروض الكفايات. ([47])

هذا فضلا عن أن بعض أهل العلم أنكر ذلك التأويل على الزجاج وجعله معارضًا للإجماع الذي نقلناه من كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية؛ قال أبو القاسم النيسابوري: {ولتكن منكم أمة} أي: لتكن كلكم، ف (من) لتخصيص المخاطبين من سائر الأجناس، ومثله: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} قاله الزجاج. وأنكر عليه؛ لأنه فرض كفاية بالاتفاق ([48]).

6- وأجمعوا على أن الأمر والنهي الواجب = واجب على الفور لا على التراخي؛ إذ لو وجب على التراخي لتحقق الكثير من المنكر والفساد بلا ارتياب، ولفات المقصود من الأمر والنهي والاحتساب.

قال القرافي ¬: قال العلماء: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الفور إجماعًا. ([49])

وقال العز بن عبد السلام: وأما ما يجب على الفور فكالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكزكاة الأنعام والنقدين عند تمام الحول والتمكن من الأداء... وإنما وجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الفور؛ لأن الغرض بالنهي زوال المفسدة، فلو أخر النهي عنها لتحققت المفسدة والمعصية، وكذلك يجب على الفور الأمر بالمعروف؛ كي لا تتأخر مصلحته عن الوقت الذي وجب فيه ([50]).

وقال البيضاوي: والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وكذا زكاة المال إذا حال الحول = كل هذه واجبات فورية غير مؤقتة ([51]).

وقال شهاب الدين النفراوي: يجب كل من الأمر والنهي عند وجود شرطهما على الفور، حتى لو كان المأمور، أو المنهي جماعة لوجب خطابهم بلفظ الجمع نحو: قوموا للصلاة -في كلمة واحدة- ([52])

7- وإذا علم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر = فليعلم أن وجوبهما عندنا -أهل السنة- من جهة السمع (الوحي) كباقي التكاليف الشرعية، وخالفت المعتزلة (غلاة التحسين والتقبيح العقليين) فأوجبته عقلًا، بناء على أصلهم أن العقل يوجب ويحظر.   

قال أبو يعلى الفراء: وإذا ثبت وجوبه [أي الأمر بالمعروف] فجهة وجوبه السمع، خلافًا للمعتزلة في قولهم: طريق وجوبه العقل. وهذا بناء على أصلهم أن العقل يوجب. وعلى أصلنا: لا مجال له في إيجاب شيء ([53]).

8- ويتعين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (باليد واللسان) على المكلف إذا لم يزل المنكر (المحرم) ولم يقم المعروف الواجب -ولو جزئيًّا- إلا به. أو كان معيَّنًا ومنصوبًا من قبل الإمام أو من ينوب عنه.

قد ذكرنا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد واللسان فرض كفاية -من حيث الأصل- إلا أنه قد يصير عينيًّا في حق البعض وفي بعض الصور والأحوال، يجمع هذه الصور والأحوال جميعها تلك الحالتين، وهذا بالطبع مع افتراض عدم وجود مانع، أو عذر آخر يسقط وجوبه، أو يمنع مشروعيته.

قال النووي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف. ثم إنه قد يتعين كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو، وكمن يرى زوجته، أو ولده، أو غلامه على منكر، أو تقصير في المعروف. ([54])

وقال نجم الدين الغزي -تعليقًا على كلام النووي فيما يتعين فيه الأمر والنهي-: ومن أمثلته أن يكون في طريق أو مكان خال فرأى رجلًا يقتل آخر، أو يزني بامرأة، أو يلوط بغلام، أو يريد ذلك منهما، وقد عزم على الفعل وشاهد أسبابه، أو رآه يشرب الخمر أو لم يشرب لكنه في يده وقد رفعه إلى فيه، وهو قادر عليه في الصور كلها، فقد صار المنع والإنكار في حقه فرض عين. ومن أمثلته أن يكون ثم غيره لكن غيره ليس له جاه ولا ولاية، وقد انفرد بالولاية أو الجاه بحيث يزيل ذلك المنكر وينكره، ولا يحذر من إزالته ما يحذره غيره، كما اتفق لمولانا قاضي القضاة - المشار إليه - في إنكاره أمورًا هي في نفسها منكرة ولم يستطع غيره إنكارها؛ لأمرين: الأول: عدم الولاية والجاه. والثاني: تعلقها بالأمراء، وذوي الجاه، ومن يخشى ضرره. ([55])

وقال ابن العربي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نصرة الدين بإقامة الحجة على المخالفين، وقد يكون فرض عين إذا عرف المرء من نفسه صلاحية النظر والاستقلال بالجدال، أو عرف ذلك منه. ([56])

وقال شيخ الإسلام: وفي الجملة: فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، فإذا غلب على ظنه أن غيره لا يقوم به تعين عليه، ووجب عليه ما يقدر عليه من ذلك، فإن تركه كان عاصيا لله ولرسوله، وقد يكون فاسقا، وقد يكون كافرا. ([57])

وقال أيضا: وإذا كان جماع الدين وجميع الولايات هو أمر ونهي؛ فالأمر الذي بعث الله به رسوله هو الأمر بالمعروف، والنهي الذي بعثه به هو النهي عن المنكر، وهذا نعت النبي والمؤمنين، كما قال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}.، وهذا واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض على الكفاية ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره، والقدرة هو السلطان والولاية، فذوو السلطان أقدر من غيرهم، وعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم. فإن مناط الوجوب هو القدرة؛ فيجب على كل إنسان بحسب قدرته قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} ([58]).

وقال نظام الدين النيسابوري: أجمعنا على أن ذلك واجب على الكفاية.. ثم إن نصب لذلك رجل تعين عليه بحكم الولاية، وهو المحتسب. ([59])

وقال ابن القيم: الحكم بين الناس في النوع الذي لا يتوقف على الدعوى هو المعروف بولاية الحسبة. وقاعدته وأصله: هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، ووصف به هذه الأمة، وفضلها لأجله على سائر الأمم التي أخرجت للناس، وهذا واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض كفاية، ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره من ذوي الولاية والسلطان، فعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم، فإن مناط الوجوب: هو القدرة، فيجب على القادر ما لا يجب على العاجز. قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} وقال النبي r: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ([60]).

وقال الشمس ابن مفلح: وهو [أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] فرض كفاية على من لم يعين عليه. ([61])

وقال أيضا: ومن ولاه السلطان الحسبة تعين عليه فعل ذلك. ([62])

وقال السفاريني: وقد يصير فرض الكفاية فرض عين كما نبه عليه الناظم.. (على عالم) متعلق بفرض عين (بالحظر)، أي المنع والحرمة.. (والفعل)، أي والحال أن الفعل (لم يقم)، أي لم يقدر على الإقامة (سواه)، أي غير ذلك بالعالم بالحظر (به)، أي بالفعل الذي هو إزالة ذلك المحظور الذي هو المنكر فيه متعلق ب(يقم)، وجملة (والفعل لم يقم به..) جملة حالية، وإنما يجعل في حقه فرض عين حيث علم بالحظر ولم يقم به سواه، ولا بد أن يكون (مع أمن) من ضرر في نفسه، أو ماله، أو حرمته، أو أهله. ([63])

وقال أيضًا: تحقق من كلام الناظم ¬ أن الأمر والنهي يدوران بين فرض الكفاية وفرض العين. فإن علم بالمحظور وعلم بفعله ولم يقم سواه بإزالته وأمن على نفسه، فهو في حقه فرض عين. وإن علم أو أمن مع وجود من يقوم به سواه ففرض كفاية. وظاهر نظمه ¬ أنه لا يخرج عن ذلك، وهو كذلك من حيث هو هو. نعم إذا كان في حالة لا يجب الأمر والنهي بأن خاف على نفسه، أو ماله، أو حرمته على ما قدمنا يكون فضيلة لا واجبًا ([64]).

وقال الرملي: مثَّل [أي الماتن، وهو ابن رسلان] لفرض الكفاية بقوله: (كأمر معروف ونهي المنكر) المجمع عليه؛ إذ هو من أعظم قواعد الإسلام والمراد به الأمر بواجبات الشرع والنهى عن محرماته، فإن نصب الإمام لذلك رجلا تعين عليه بحكم الولاية، وهو المحتسب. ([65])

وقال محمد رشيد رضا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمور العارضة المعينة من فروض الكفاية، وقد يتعين وينحصر في فرد إن لم يوجد غيره ([66]).

وقال ابن عثيمين: الأمر بالمعروف تارة يكون واجبًا وجوب عين على من قدر عليه ولم يوجد غيره، وكذلك النهي عن المنكر، وتارة يكون واجب كفاية لمن قدر عليه، ولكن هناك من يقوم مقامه.. ([67]).


هذا آخر ما تيسر كتابته، وصل الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



([1]) أحكام القرآن (2/ 608).

([2]) شرح المقاصد (5/171).

([3]) الإحياء (2/ 306).

([4]) الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/ 132).

([5]) شرح مسلم (2/ 22).

([6]) شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد (ص: 112).

([7]) الاستقامة (1/41).

([8]) فتح القدير (1/ 423).

([9]) رواه مسلم (49).

([10]) رواه مسلم (50).

([11]) حديث رقم (4347). والحديث حسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (689)، مشكاة المصابيح (5141).

([12]) جامع العلوم والحكم (3/ 950-951).

([13]) غذاء الألباب (1/ 227).

([14]) مجموع الفتاوى (28/ 127).

([15]) جامع العلوم والحكم (ص: 321).

([16]) المحلى بالآثار (8/ 423).

([17]) الفواكه الدواني (2/ 299).

([18]) الواضح في أصول الفقه (1/ 83).

([19]) التقريب والإرشاد (الصغير) (1/ 256).

([20]) التمهيد (23/281).

([21]) مراتب الإجماع (ص: 176).

([22]) الآداب الشرعية (1/ 162).

([23]) مجموع الفتاوى (28/ 131-134) مختصرًا.

([24]) مجموع الفتاوى (8/ 366-367).

([25]) الاستقامة (2/ 328-330).

([28]) الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/ 281).

([29]) الاستذكار (8/ 586).

([30]) كشف المشكل من حديث الصحيحين (3/ 174).

([31]) شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص: 169).

([32]) فيض القدير (6/ 131).

([33]) فتاوى نور على الدرب بعناية الشويعر (18/ 333).

([34]) أصول الدعوة (1/484).

([35]) سواء كان قادرا على ذلك بنفسه أو أن يقيم غيره ليقوم بذلك. فقد لا يتم الواجب إلا بنوع مشاركة وإعانة وما لا يتم الواجب به فهو واجب قال الشاطبي في الموافقات (1/ 284): فمن كان قادرا على الولاية؛ فهو مطلوب بإقامتها، ومن لا يقدر عليها؛ مطلوب بأمر آخر، وهو إقامة ذلك القادر وإجباره على القيام بها، فالقادر إذًا مطلوب بإقامة الفرض، وغير القادر مطلوب بتقديم ذلك القادر؛ إذ لا يتوصل إلى قيام القادر إلا بالإقامة من باب ما لا يتم الواجب إلا به. اهـ.

([36]) هذا هو التعريف الصحيح لفرض الكفاية. وأما تعريف بعض أهل العلم له بأنه: إذا لم يقم به البعض أثم الجميع. ففيه بعض التجوز؛ إذ لا يلزم من بقاء المنكر وعدم وجود المعروف الواجب، تفريط الجميع الذي يستلزم إثمهم جميعًا، بل الإثم متوجه لمن فرط وقد كان قادرًا. أما من أمر ونهى وفعل الواجب عليه فقد برئ من الإثم ولو لم يزُل المنكر ولا يكف الله نفسًا إلا وسعها.  والنبي r أخبرنا أنه (يأتي النبي وليس معه أحد). وكما في قصة اصحاب السبت فقد أنجى الله الذين ينهون عن السوء - مع أن القوم بقوا على منكرهم ولم يزل- لأنهم فعلوا ما أمروا به ولم يفرطوا. قال النووي ¬ في شرح مسلم (2/ 23): الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف. اهـ. فعلق الإثم بمن تمكن منه بلا عذر لا الجميع. اهـ.

وقال شيخ الإسلام ¬ في الاستقامة (2/207-208): الله تعالى كما أخبر بأنها [أي هذه الأمة] تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فقد أوجب ذلك على الكفاية منها بقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]. وإذا أخبر بوقوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منها لم يكن من شرط ذلك أن يصل أمر الآمر ونهي الناهي منها إلى كل مكلف في العالم؛ إذ ليس هذا من شرط تبليغ الرسالة، فكيف يشترط فيما هو من توابعها، بل الشرط أن يتمكن المكلفون من وصول ذلك إليهم، ثم إذا فرطوا فلم يسعوا في وصوله إليهم مع قيام فاعله بما يجب عليه: كان التفريط منهم لا منه. وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب على كل أحد بعينه، بل هو على الكفاية، كما دل عليه القرآن، ولما كان الجهاد من تمام ذلك كان الجهاد أيضا كذلك، فإذا لم يقم به من يقوم بواجبه أثم كل قادر بحسب قدرته؛ إذ هو واجب على كل إنسان بحسب قدرته. اهـ.

([37]) تفسير ابن كثير (2/ 91).

([38]) شرح النووي على مسلم (12/ 230).

([39]) روضة الطالبين (10/ 218-219).

([40]) مختصر الفتاوى المصرية (ص: 579)، المستدرك على مجموع الفتاوى (3/203-204) وهو أضبط في العبارة.

([41]) تفسير النيسابوري المسمى غرائب القرآن ورغائب الفرقان (2/ 227).

([42]) مغني المحتاج (4/ 211).

([43]) فتح الباري (13/ 121).

([44]) قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (28/65-66): جماع الدين وجميع الولايات هو أمر ونهي؛ فالأمر الذي بعث الله به رسوله هو الأمر بالمعروف، والنهي الذي بعثه به هو النهي عن المنكر، وهذا نعت النبي والمؤمنين، كما قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. اهـ. وانظر كذلك: الطرق الحكمية لابن القيم (ص:346).

([45]) ومثله فول الشوكاني رحمه الله في  السيل الجرار (ص: 944): أدلة الكتاب والسنة الكثيرة المتواترة قد دلت على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم وهذا هو أعظم أعمدة الدين وأقوى أساساته وأرفع مقاماته، ولا شك أن الحمل على فعل الواجب يدخل تحت أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا قام بذلك الإمام فهو رأس الأمة وصاحب الولاية العامة [كان] قيامه مسقطا للوجوب [عن] غيره، وإن لم يقم فالخطاب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باق على كل مكلف يقدر على ذلك، والعلماء والرؤساء لهم مزيد خصوصيته في هذا؛ لأنهم رءوس الناس والمميزون بينهم بعلو القدر ورفعة الشأن. اهـ. 

([46]) شرح منظومة الآداب للحجاوي (ص: 127). 

([47]) تفسير النيسابوري المسمى غرائب القرآن ورغائب الفرقان (2/ 227).

([48]) إيجاز البيان عن معاني القرآن (1/ 200).

([49]) الفروق (4/ 257).

([50]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 249-250).

([51]) الإبهاج في شرح المنهاج (1/ 75).

([52]) الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (2/ 299).

([53]) المعتمد في أصول الدين (ص/194).

([54]) شرح النووي على مسلم (2/ 23).

([55]) رسالة في الكلام على آية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ص 47).

([56]) أحكام القرآن (1/ 383).

([57]) مختصر الفتاوى المصرية (ص: 581)، المستدرك على مجموع الفتاوى (3/204).

([58]) مجموع الفتاوى (28/ 65-66)،

([59]) تفسير النيسابوري المسمى غرائب القرآن ورغائب الفرقان (2/ 227).

([60]) الطرق الحكمية (ص:345).

([61]) الآداب الشرعية (1/ 161).

([62]) الآداب الشرعية (1/ 162).

([63]) غذاء الألباب شرح منظومة الآداب (1/ 212).

([64]) غذاء الألباب شرح منظومة الآداب (1/ 220).

([65]) غاية البيان شرح زبد ابن رسلان (ص: 20).

([66]) مجلة المنار (34/ 355).

([67]) شرح الأربعين النووية (ص: 254).


المرفقات

  • القول_المفصل_المحرر_في_حكم_الأمر_بالمعروف_والنهي_عن_المنكر -أ. عباس محمد .pdf

    361.746Kb

Comments

Leave a comment

Blog categories

عربة التسوق

Loading...