إعداد الفريق الفني لبرنامج محكمات . 17 نوفمبر, 2022, 4:02 PM
إعداد الفريق الفني لبرنامج محكمات
بسم الله الرحمن الرحيم
أرسَل الله محمَّدًا صلى الله عليه وسلم بالإسلام، وهو الدِّين الخاتم الذي لا دين بعده، والذي جاء ناسخًا لكل الأديان السابقة، وقد تميَّز الدين الإسلامي بكمال تشريعاته وعدم تناقضها، وكونها منضبطةً كاملةً جالبةً للمصالح ودافعةً للمفاسد.
وقد ذكر الله في كتابه أنَّ الكتاب العزيز محكم ومتشابه، فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]، فالأصل في الدين هي المحكمات، وهي التي نُرجِع إليها المتشابهات، يقول الطبري رحمه الله (ت: 310هـ) في بيان المحكمات: :وأما "المحكمات"، فإنهن اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل، وأثبتت حججهن وأدلتهن على ما جُعلن أدلة عليه من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب، وأمر وزجر، وخبر ومثل، وعظة وعِبر، وما أشبه ذلك"([1]).
فالمحكمات هي أساس الدين، وهي الأصول الواضحات التي عليها أدلة قطعية، أو عليها إجماع، وهي كثيرة جدًّا؛ بل هي الأصل في الدين، وذلك مثل: إفراد الله بالعبادة، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وأركان الإسلام من صلاة وزكاة وصيام وحج، وحرمة النفاق والشرك والكفر، والتحاكم إلى الكتاب والسنة، وكل ما يشتبه على الإنسان من أمور دينه فإنه يُرجعها إلى المحكمات ويفهمه بموجبها.
ولا أريد الإطالة هنا في الحديث عن المحكمات وبيان أهمِّيتها، ولكن هناك أمر مهم يتعلق بالمحكمات، وهو يُتداول كثيرًا في الأوساط الفكرية عامة، والأوساط الحداثية والليبرالية خاصة، وهو: أن هناك اختلافًا بين الفقهاء في عددٍ من المسائل الشرعية، والاختلاف جزء من الحياة، فمخالفة بعض الفرق أو النَّاس للمحكمات كفيلة بأن نقول: إن المحكمات أمور اجتهادية يختلف فيها الناس، ولا يجوز أن نحجِّر على الناس بإلزامهم بقول واحد.
وهذه المسألة من المسائل التي يخطئ فيها كثيرٌ من الناس، كما أنَّها من المسائل التي يمكن أن تُستغل بشكل خاطئ، فقد انتشر بين الناس أنه "لا إنكار في مسائل الخلاف"، وصارت هذه العبارة ذريعة لكل من يروج للأقوال الضعيفة الشاذَّة، كما صارت ملاذًا لكل من يريد الانعتاق من مسائل الشريعة التي فيها نصوص صريحة واضحة، فتراهم كلما أنكر أحدٌ مسألةً قالوا: "فيها خلاف، ولا إنكار في مسائل الخلاف".
فهل هذه الدعوى صحيحة؟ وهل المحكمات عرضة للاختلاف أولا؟ وهل يُنكر على المخالف فيها أن أنه اختلاف مقبول سائغ؟
يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة عبر المحاور الآتية:
أولا: من رحمة الله وحكمته أن جعل المحكمات هي الأصل في الدين وهي الأكثر، وذلك لأن جعلَ الدين عُرضةً للاختلافات والآراء ومجرَّد عقول الناس فيه تضييع للدين وجعله وفق آراء الناس مهما كانت واختلفت، والنتيجة الحتمية لهذا التصور هو: أن تكون لنا أديانٌ عديدة بدلًا من دين واحد.
ثانيًا: من رحمة الله بعباده أيضًا أن جعل لهم مساحةً للاختلاف، فإنَّ الاختلاف أمر كونيٌّ لا بدَّ منه، فهو من طبيعة البشر؛ إذ تختلف عقولهم ووجهات نظرهم تجاه القضايا، يقول ابن تيمية رحمه الله (ت: 728هـ) وهو يبين أن الاختلاف لا بدَّ منه، وأن وقوعه لا ينافي خيريَّة الأمة: "لا بد أن تقع الذنوب من هذه الأمة ولا بد أن يختلفوا فإن هذا من لوازم الطبع البشري، لا يمكن أن يكون بنو آدم إلا كذلك، ولهذا لم يكن ما وقع فيها من الاختلاف والقتال والذنوب دليلًا على نقصها، بل هي أفضل الأمم وهذا الواقع بينهم من لوازم البشرية"([2]).
ويصل ابن القيم رحمه الله (ت: 751هـ) إلى نفس النتيجة فيقول عن الاختلاف: "فإنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية"([3]).
إلا أن هذا الاختلاف المحمود هو الاختلاف السائغ في المسائل التي تقبل الاختلاف، مثل: فروع العقيدة وفروع الفقه، وهي التي لا توجد أدلة صريحة عليها، ولا إجماع فيها.
لكن هل يصح الاختلاف في المحكمات؟
ثالثًا: في الإجابة عن السؤال السابق يقال:
جَعَل الله للدين محكمات لا يمكن تجاوزها ولا الاختلاف فيها، فالمسائل القطعية لا اجتهاد فيها، ولا تقبل الاختلاف، والاختلاف فيها مذموم، وهذا مثل: أصول الإيمان بالله واليوم الآخر والإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأصول الصفات، والقدر، وأركان الإسلام وغير ذلك من المحكمات التي لا تقبل الاختلاف، وليست معرضة للاجتهاد، بل هي محكمات بينها الله وقطع بها فلا يجوز تغييرها ولا يًقبل الاختلاف فيها.
وقد توارد على هذا الإسلام، يقول الشاطبي رحمه الله (ت: 790هـ): "فأمَّا القطعي فلا مجال للنَّظر فيه بعد وضوح الحق في النَّفي أو في الإثبات وليس محلًّا للاجتهاد، وهو قسم الواضحات؛ لأنَّه واضح الحكم حقيقة، والخارج عنه مخطئ قطعًا"([4]).
وفي بيان المسائل التي لا يسوغ فيها الاجتهاد يقول الشيرازي (ت: 476هـ): "وأما الشرعية فضربان: ضربٌ يسوغ فيه الاجتهاد، وضربٌ لا يسوغ فيه الاجتهاد؛ فأما ما لا يسوغ فيه الاجتهاد فعلى ضربين.
أحدهما: ما علم من دين الرسول صلى الله عليه وسلم ضرورةً كالصلوات المفروضة، والزكوات الواجبة، وتحريم الزنا واللواط وشرب الخمر، وغير ذلك، فمن خالف في شيء من ذلك بعد العلم فهو كافر؛ لأن ذلك معلوم من دين الله تعالى ضرورة، فمن خالف فيه فقد كذب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في خبرهما فحكم بكفره.
والثاني: ما لم يعلم من دين الرسول صلى الله عليه وسلم ضرورة كالأحكام التي تثبت بإجماع الصحابة وفقهاء الإعصار ولكنها لم تعلم من دين الرسول صلى الله عليه وسلم ضرورة فالحق من ذلك في واحد وهو ما أجمع الناس عليه فمن خالف في شيء من ذلك بعد العلم به فهو فاسق"([5]).
رابعًا: كيف نتعامل مع الاختلاف في المحكمات؟ وهل ينكر على المخالف؟
إذا كانت المسألة من المسائل التي يسوغ فيها الاختلاف فإنه مقبول، ويؤجر صاحبه إن كان مجتهدا كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"([6]).
وفي بيان هذا يقول ابن تيمية رحمه الله (ت: 728هـ): "وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية كسماع الميت صوت الحي، وتعذيب الميت ببكاء أهله، ورؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه قبل الموت مع بقاء الجماعة والألفة. وهذه المسائل منها ما أحد القولين خطأ قطعا ومنها ما المصيب في نفس الأمر واحد عند الجمهور أتباع السلف والآخر مؤد لما وجب عليه بحسب قوة إدراكه"([7]).
أما المحكمات فإنها لا تقبل الاختلاف، ويجب تصحيح أي اختلاف يقع فيها، والرد على صاحبه، فالاختلاف في المحكمات غير مقبول بل مردود على صاحبه، ولو خالف بعض الناس في المحكمات فإنه ينكر عليه؛ ولأجل ذلك أنكر إبراهيم النخعي (ت: 96هـ) على شريح القاضي(ت: 78هـ) حين أنكر صفة العُجب، ولم يقبل اجتهاده فيه، يقول ابن تيمية رحمه الله (ت: 728هـ): "وكان القاضي شريح ينكر قراءة من قرأ: (بَلْ عَجِبْتُ) [الصافات: 12]([8]) ويقول: إن الله لا يعجب؛ فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال: إنما شريح شاعر يعجبه علمه. كان عبد الله أفقه منه"([9]).
وحين تكلم بعض علماء أهل السنة والجماعة في حديث الصورة([10])، وصرفوا الضمير فيه إلى غير الله تعالى أنكر عليهم العلماء، يقول ابن تيمية رحمه الله (ت: 728هـ): "لما انتشرت الجهمية في المائة الثالثة جعل طائفةٌ الضمير فيه عائدًا إلى غير الله تعالى حتى نقل ذلك عن طائفة من العلماء المعروفين بالعلم والسنة في عامة أمورهم؛ كأبي ثور وابن خزيمة وأبي الشيخ الأصبهاني وغيرهم، ولذلك أنكر عليهم أئمة الدين وغيرهم من علماء السنة"([11]).
ويقول أبو الحسن الكرجي(ت: 532هـ): "فأمَّا تأويل من لم يتابعه عليه الأئمة فغير مقبول وإن صدر ذلك التَّأويل عن إمام معروف غير مجهول؛ نحو ما ينسب إلى أبي بكر محمد بن خزيمة تأويل الحديث "خلق الله آدم على صورته"([12])، فإنَّه يفسر ذلك بذلك التَّأويل ولم يتابعه عليه من قبله من أهل الحديث لما روينا عن أحمد V، ولم يتابعه أيضًا من بعده حتى رأيت في كتاب الفقهاء للعبادي الفقيه أنَّه ذكر الفقهاء، وذكر عن كل واحد منهم مسألة تفرد بها، فذكر الإمام ابن خزيمة وأنَّه تفرد بتأويل هذا الحديث "خلق الله آدم على صورته" على أنِّي سمعت عدة من المشايخ رووا أنَّ ذلك التأويل مزوَّر مربوط على ابن خزيمة، وإفكٌ افتُري عليه، فهذا وأمثال ذلك من التَّأويل لا نقبله ولا يُلتفت إليه، بل نوافق ونتابع ما اتفق الجمهور عليه، وكذلك في تأويل الشيخ أبي أحمد محمد بن علي الفقيه الكرجي الإمام المعروف بالقصاب للآيات والأخبار الواردة في إحساس الميت بالعذاب، وإطنابه في كتابه المعروف بـ "نكت القرآن"، وذهابه إلى أن الميت بعد السؤال لا يحس طول لبثه في البرزخ ولا بالعذاب، فنقول هذا تأويل تفرد به ولم يتابعه الأئمة عليه والقول ما ذهب إليه الجمهور"([13]).
فالاختلاف في المحكمات غير مقبولة، وينكر على أصحابها.
وقد يتمسك بعضهم بالمقولة المشهورة "لا إنكار في مسائل الخلاف"، وهذا تمسك غير صحيح، وقول غير صحيح أيضا، فالمسائل التي لا إنكار فيها هي المسائل الاجتهادية غير القطعية، أما المحكمات فإنها لا تقبل الاختلاف، ولو وجد فيها الخلاف وجب الإنكار، يقول ابن تيمية رحمه الله (ت: 728هـ): "وقولهم: "مسائل الخلاف لا إنكار فيها: ليس بصحيح؛ فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل، أما الأول فإذا كان القول يخالف سنة، أو إجماعًا قديمًا وجب إنكاره وفاقًا، وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول المصيب واحد وهم عامة السلف والفقهاء، وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره أيضًا بحسب درجات الإنكار كما ذكرناه من حديث شارب النبيذ المختلف فيه، وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة، وإن كان قد اتبع بعض العلماء، وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم ينكر على من عمل بها مجتهدًا، أو مقلدًا.
وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد كما اعتقد ذلك طوائف من الناس، والصواب الذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبا ظاهرا، مثل حديث صحيح لا معارض من جنسه فيسوغ له -إذا عدم ذلك فيها- الاجتهاد لتعارض الأدلة المتقاربة، أو لخفاء الأدلة فيها وليس في ذكر كون المسألة قطعية طعن على من خالفها من المجتهدين كسائر المسائل التي اختلف فيها السلف"([14]).
ويقول ابن القيم رحمه الله (ت: 751هـ): "وهذا يرد قول من قال: لا إنكار في المسائل المختلف فيها، وهذا خلاف إجماعِ الأئمة، ولا يعلم إمام من أئمة الإسلام قال ذلك"([15]).
وبناء عليه فإن المسائل التي لا يسوغ فيها الخلاف ينكر عليها وعلى معتقدها، ولذلك نجد أن العلماء قد أنكروا على من أخطأ من السلف في قضايا عقدية كما مرَّ بنا، كما أن العلماء قد أنكروا على المبتدعة قديمًا وحديثًا، بل أنكروا على من أخطأ من السلف مع صحة منهجهم الاستدلالي، وتقديمهم الكتاب والسنة، وعدم تصدرهم عن أصل عقلي مخالف للوحي، ومع ذلك أنكروا عليهم.
ولذلك من ينادي بعدم الإنكار على من يخالف في المحكمات فإن كلامه غير مقبول، وهو مخالف لكلام السلف، فإن هذا اختلاف غير سائغ ويجب الإنكار عليه، وبيان ضلاله، وفي تقرير هذا وبيانه يقول ابن عثيمين رحمه الله (1421هـ): "وقول بعض العلماء: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، مبني على ما ذكرنا من الشروط؛ وذلك لأن المسائل الاجتهادية ليس فيها إنكارٌ ما دام يسوغ فيها الاجتهاد، أما ما لا يسوغ فيه الاجتهاد فإنه ينكر على فاعله، ولو قال: لقد أدى بي اجتهادي إلى كذا وكذا، يقال: لا محل للاجتهاد والنص في صريح.
فلو قال قائل في قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة: الآية3] لا حرج في أكل ميتة الظبي والأرنب لأن الله تعالى قال: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة: الآية3] بعد أن قال: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ) [المائدة: الآية1] فيكون معنى الآية حرمت عليم الميتة من بهيمة الأنعام، وزعم أنه مجتهد في ذلك؟
فيجاب عليه بأن هذا لا يسوغ فيه الاجتهاد؛ لأن العلماء مجمعون على أن جميع الميتات حرام، وما لا يسوغ فيه الاجتهاد لو زعم فاعله أنه مجتهد فيه، قلنا له: لا قبول.
والذين أنكروا صفات الله إما كلية أو جزئية، ننكر عليهم. فإذا قالوا: هذا اجتهادنا، وعقولنا ترفض أن تكون لله عين أو يد أو وجه أو قدم، نقول: إن المرجع في الأمور الغيبية إلى النقل المجرد لا إلى العقول، فالشيء الغيبي عنك كيف تحكم عقلك فيه؟! ثم هو شيء غيبي أيضاً لا يمكن إدراكه، قال تعالى: (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) [طه: الآية110] فهذا لا يسوغ فيه الاجتهاد، ثم أين الاجتهاد في هذا في عهد الصحابة والتابعين؟
وعلى ذلك فقول بعض العلماء: لا إنكار في مسائل الاجتهاد ليس على إطلاقه، بل المراد ما يمكن أن يجتهد فيه، وأما ما لا يمكن ففيه الإنكار"([16]).
خامسا: هل يأثم المخالف في المحكمات؟
والجواب: المخالف في المحكمات مستحق للإثم، لأنه خالف في المعلوم من الدين بالضرورة وما ثبت في الدين قطعًا؛ إلا أن يكون جاهلا بأن هذا قطعي في الدين، يقول الغزالي رحمه الله (ت:505هـ): "ووجوب الصلوات الخمس والزكوات وما اتفقت عليه الأمة من جليات الشرع فيها أدلة قطعية يأثم فيها المخالف، فليس ذلك محل الاجتهاد. فهذه هي الأركان، فإذا صدر الاجتهاد التام من أهله وصادف محله كان ما أدى إليه الاجتهاد حقًّا وصوابا"([17]).
سادسا: الخلاف في التطبيق لا يعني الخلاف في الأصل المحكم:
وأعني بهذا: أن بعض المسائل التي هي محكمة في الدين قد يدخل الاختلاف في تطبيقها وإنزال الأحكام المتعلقة بها على الأعيان، فإن كثيرا من المسائل النظرية لها أحكام تُطبق على الأعيان أو الجماعات أو الناس عمومًا، وهذا الاختلاف اختلاف في تحقيق المناط، وتحقيق المناط يعني: التَّأكد من تحقق العلة التي ذكرها الشرع من أجل إنزال الحكم الشرعي على الواقعة المعينة، فقد يقع الاختلاف في هذا النوع من القضايا إلا أن هذا لا يعني قبول الاختلاف في أصل المسألة، وذلك مثل أن يقال: صرف العبادة لغير الله كفر، فهذه محكمة لا تقبل الاختلاف ولا يعتدُّ به لو خالف أحد بل ينكر عليه، ثم تطبيق نوع من صرف العبادة لغير الله هل يعد به الفاعل كافرا أو لا مسألة اجتهادية خلافية قد يقع فيها الاختلاف، ومع هذا تبقى المسألة الأولى محكمة.
وأخيرا:
محكمات الدين هي التي تضبط العقول والآراء والاختلافات من أن تزيغ أو تزلَّ أو تحيد عن الحق، ولذلك لا يمكن أن يقع الخلاف فيه لأن وقوع الخلاف فيه يعني ضياع معيار الحق والضلال؛ بل حتى المسائل الاجتهادية التي يسوغ فيها الخلاف يجب أن يكون الخلاف فيها مبنيًّا على أصول محكمة ولا يكون الاختلاف صادرًا عن مجرد عقل أو رأيٍ أو هوى.
وصلى الله عليه نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم
([3]) الصواعق المرسلة (2/519).
([10]) وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "خلق الله آدم على صورته" والحديث متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه برقم (6227)، ومسلم في صحيحه، برقم (2841).