وحدة الأديان في تأصيلات التصوف وتقريرات المتصوفة دراسة تحليلية( الجزء الأول)

ملخص البحث

 

عني هذا البحث بدراسة نصوص المتصوفة؛ المتضمنة معاني تؤيد أو تتضمن الوحدة بين الأديان، بالتحليل والدراسة المتأملة، بقطع النظر عن مراد المتصوفة؛ إذ الكلام القطعي قد لاينتزع منه حكما على صاحبه لذاته، لكن ينتزع منه حكما على الكلام  ذاته.

وقد بدأ بإفادات جمع من الباحثين ذوي المشارب الفكرية المختلفة شرقا وغربا، حيث اتحد رأيهم في العلاقة ما بين فكرة وحدة الأديان والفكر الصوفي تضمنا ولزوما.

وذلك كان سببا في تبني بعض الكتاب والدوائر البحثية، الإفادة من الفكر الصوفي والتصوف؛ لتقديم صورة جديدة عن المسلمين، خلاف الصورة التي كرسها الفكر السلفي: صورة ينظر بها الإسلام إلى سائر الديانات نظرة مساواة وندية، لا نظرة علو واستعلاء.

ولما كان هذا الاتجاه يتوجه إلى أصول الإسلام بالتخليط والتغيير، لصراحة النصوص وقطعيتها، ومعلوميتها من الدين بالضرورة: أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه:

احتاج البحث النظر في أقوال ومقاصد المتصوفة، واستخراج ما يمكن أن يكون منها متضمنا لفكرة وحدة الأديان، أو مؤيدا، أو ممهدا، فمما لوحظ من ذلك: أن الفكر الصوفي تضمن ذلك كله؛ فكانت إشارات المتصوفة الأوائل ممهدة للأواخر، لإعلان الفكرة بالقول الصريح غير المحتمل، وبطرق شتى، حتى امتلأت كتبهم منه: تقريرا، وتبريرا، واستحسانا.

فتأصيل المتقدمين، حمل المتأخرين على تقرير وحدة الأديان بالمساواة بينها في القبول الإلهي في الدنيا، والنجاة والنعيم في الآخرة، على الجميع دون فرق بينهم لدياناتهم.

لقد بني البحث على مبحثين، هما ركناه:

الأول: التأصيلات الصوفية لفكرة وحدة الأديان.

وتضمن خمسة أصول هي: وحدة الوجود، الحب الأزلي، الربوبية، الجبر، الرضا.

الثاني: تقريرات المتصوفة لفكرة وحدة الأديان.

وتضمن ثلاثة تقريرات هي: المعبود واحد، التدين بكل دين، مآل الكل إلى النعيم.

وهكذا تكامل البحث، الذي استعمل منهج التحليل، طريقة لأداء هذه العملية العلمية.

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة:

مقصد هذا العمل: البحث في علاقة التصوف بوحدة الأديان، بعدما لوحظ تعدد وكثرة الإفادات بوجودة هذه العلاقة، من مصادر فكرية متنوعة ومختلفة، بعضها غير مناوئ للتصوف، فإما محايدة أو مائلة نحو التصوف، لكن طريقتها المنهجية في التعامل مع الأفكار والقضايا، دفعت بها إلى نسبة فكرة وحدة الأديان إلى التصوف.

وفي البحوث العلمية تختفي فرضيات النيات الحسنة، لتظهر الأدلة والوقائع الحية؛ لتكون محور الحكم على الأفكار دون الأشخاص، فوجود النيات الحسنة لدى المنتمين لفرقة أو مذهب، لا يمنع من الحكم على أقوالهم وأفعالهم، سواء بالسلب أو الإيجاب.

وهذا مما ينبغي أن يخفف وطأة النقد على المنقودين، ومعلوم ضرورة: أن لا أحد يفوق النقد؛ فمن البدهيات: أن ليس من أحد نال حظ العصمة من الخطأ في القول أو العمل.

وفي هذا الوقت، بلغ الكلام على التسامح  مبلغا يصل به إلى إلغاء الفوارق بين الأديان، كما هو الحال عند ناس، حتى إنهم استرجعوا من التاريخ فرقا وعقائد؛ ليبنوا عليها رأيهم البالغ في المساواة بين الأديان، تحت مسمى: "التسامح".

وظهر التصوف في الطريق إلى هذه العقيدة الجديدة، متهما في نظر الناقدين، ومرجعا مؤثرا ومويدا في نظر المؤيدين، متمثلا في شخصيات كبرى كابن عربي وجلال الدين الرومي.

لقد اعتنى هذا البحث بالتفتيش في هذه العلاقة، من خلال مبحثين هما:

-       الأول: تأصيلات التصوف لوحدة الأديان.

-       الثاني: تقريرات المتصوفة لوحدة الأديان.

واتبع في ذلك طريقة التحليل لنصوص المتصوفة في هذا الباب، ودراسة ما تتضمنه من مبادئ وتأصيلات تفيد الفكرة، وتجعل لها قدما في الفكر الصوفي، به ولأجله وجد أنصار المساواة بين الأديان في التصوف خير معين.

*       *       *

مدخل:

إفادات متشابهة، في علاقة وحدة الأديان بالتصوف، لجملة منوعة من الباحثين في التصوف:

1-             يقول عبد الرحمن الوكيل: "نعم تدين الصوفية المعاصرة بوحدة الوجود، وبوحدة الأديان" [1].

2-             يقول المستشرق الإنجليزي نيكلسون، المتخصص في التصوف الإسلامي: "ومن لوازم مذهبهم في وحدة الوجود أيضا: قولهم بصحة جميع العقائد الدينية أيّا كانت؛ فإن الحق كما يقول ابن عربي: لا تحصره عقيدة دون أخرى" [2].

-        ويقول أيضا: "وهذه المذاهب منطقيا تلغي كل قانون ديني أو أخلاقي، وليس عند خيال العارف مثوبات أو عقوبات ربانية، ولا مقاييس للحسن أو القبيح، وعنده أن كلمة الله المكتوبة، قد نسختها كشفه اللطيف المباشر. يقول أبو الحسن الخرقاني: لا أقول إن الجنة والنار غير موجودتين، ولكني أقول: ليستا عندي شيئا؛ لأن الله خلقهما جميعا، وليس لمخلوق مكان حيث أكون.

-         ومن هنا كانت جميع أشكال الأديان متساوية، وليس الإسلام بأفضل من الوثنية" [3].

3-             يقول أحمد أمين: "وإذ قال كثير منهم بوحدة الوجود: كانوا أسمح الناس في اختلاف الأديان. فالاختلاف بين الأديان إنما هو اختلاف في الظاهر، أما من حيث الحقيقة والجوهر فكل تسلك طريقا إلى الله، والغاية واحدة، والاختلاف في الوسائل لا يهم، مادامت الغاية واحدة، وهي حب إله واحد.

-        ولابن عربي وجلال الدين الرومي أشعار كثيرة في هذا المعنى، وكذلك في بعض أبيات تائية ابن الفارض، خصوصا في التائية الكبرى.

-        وقالوا: إن كل دين وإن اختلف في مظهره عن الدين الآخر، فإنما يكشف عن ناحية معينة من نواحي الحق؛ فالإيمان والكفر لا يختلفان اختلافا جوهريا، واليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأصنام متفقون في عبادة إله واحد. والقرآن والتوراة والإنجيل منتظمون في سلك واحد، هو سلك التنظيم الإلهي.

-        مما يجعلهم أرحب الأديان صدرا" [4].

4-             يقول محمد السيد الجليند: "وكثير منهم صرح بوحدة الأديان، وتساوت عنده الأضداد، فليس عنده خير ولا شر، ولا طاعة ولا معصية، ولا إيمان ولا كفر، وإنما الكل يتساوى عنده" [5].

-        ويقول أيضا: "والعارف الكامل يلغي من حسابه معنى الأضداد، ويستوي في نظره جميع المذاهب والأديان، فلا فضل لدين على آخر، ولمذهب على آخر.

-         والصوفي الناضج لا يهتم بأن فلانا يتبع المذهب الفلاني أو يتعبد على مذهب كذا، أو هو على دين كذا؛ لأن العارف يعتقد أن مسجده في قلبه: (فالذين يعبدون الله في الشمس يرون الله شمسا، والذين يعبدونه في أشياء جامدة يرون الله شيئا جامدا، والذين يعبدون بصفة أنه وجود واحد، ليس كمثله شيء يعتقدون أن الله ليس له شبيه ولا مثيل، والعارف الحق لا يقيد نفسه أبدا بإحدى هذه الطرق، ويحكم بخطأ ما سواها.

-        وإذا كان لون الماء لون إنائه، فإن الماء لا لون له، وإنما يتلون بلون الإناء الذي يحل فيه)[6]، فالاختلاف والتغير بسبب الإناء، وليس بسبب الماء، وبسبب اختلاف المحل القابل، فينشأ الخلاف بين الناس، وتملأ الضغينة قلوبهم، ويحقر كل منهم معبود الآخر.

-        وهنا يصل الصوفية إلى القول بوحدة الأديان، لا تعددها" [7].

5-             يقول ولتر ستيس: "فأول جواب عن السؤال: هل التصوف هو أساسا ظاهرة دينية؟، هو بالنفي. فهو قد يرتبط بالدين، لكنه ليس في حاجة إليه" [8].

-        ويقول أيضا: "والسؤال عما إذا كان الوعي الصوفي يفضل عقيدة ما، أو ديانة من ديانات العالم، أكثر من عقيدة أو ديانة أخرى ؟.

-         من السهل أن يجيب عنه بأنه لا يفعل ذلك؛ فالصوفي في أي ثقافة، عادة ما يؤول تجربته من منظور الدين الذي تربى عليه، لكنه إذا كان متحضرا بدرجة كافية، فإنه يمكن أن يطرح هذه العقائد الدينية، ويظل محتفظا بوعيه الصوفي"[9].

-        ويقول أيضا: "ونود أن نؤكد بغض النظر عن هذه الوقائع أن التصوف هو المصدر النهائي لكل دين، وهو ماهيته. وبين أيدينا مجموعة من المشكلات تشبه تماما مجموعة المشكلات التي اعترضت النظرية الصوفية عن الأخلاق؛ إذ علينا أن نؤكد أن الوعي الصوفي كامن عند جميع البشر، لكنه عند معظم الناس مطمور تحت سطح الوعي، وما أن يلقى في الوعي الأعلى بمؤثراته، في صورة مشاعر أخلاقية، حتى تظهر أيضا آثارها هي الأخرى في صورة دوافع دينية، وسوف تؤدي هذه الدوافع بدورها إلى نشأة التركيبات العقلية، التي هي العقائد المختلفة" [10].

في النقولات الماضية: نقف على شهادات من مختلفة الاتجاهات الدارسة للتصوف:

-        اتجاه حادّ النقد (= الوكيل).

-        اتجاه هادئ النقد (= الجليند).

-        اتجاه التحليل والتصوير (=أمين).

-        اتجاه الاستشراق (نيكلسون).

-        اتجاه فلسفي غربي (ستيس).

في قضية محددة، هي: موقع وحدة الأديان في أصول التصوف.

والوحدة في الأديان مصطلح حادث يقصد به: التسوية بين جميع الأديان، من حيث الصحة، والقبول.

وفي النتيجة: اتفاق جميع هذه الاتجاهات المتباينة على حضور هذه الفكرة في التصوف.

والحضور على نوعين: رئيس أساس، وفرعي ثانوي.

وفي كل الشهادات إفادة بأن هذه الفكرة لها حضور رئيس وأساس، فهي في أصل بنية التصوف، سواء كان ذلك من جهة التضمن أو اللزوم:

-        فمن جهة التضمن، فالتصوف الحقيقي يتضمن وحدة الأديان، لا يصح بدونه.

-        ومن جهة اللزوم، فوحدة الأديان تلزم التصوف لزوما لا ينفك ألبتة.

فحقيقة العلاقة، والوصف الأدق لها هو التضمن؛ إذ اللزوم يحتمل التخلف، فليس كل لازم بمتحقق في الواقع؛ ولذا يحتاج لتأكيد تحقيقه الاستعانة بشرط عدم الإنفكاك. بينما التضمن لا يحتاج إلى شرط، هو نفسه كاف، فليس له إلا احتمال واحد هو: التحقق.

إذن التعبير الأحسن، والموافق للحقيقة، هو أن يقال: التصوف يتضمن الوحدة. لا كما فعل المستشرق نيكلسون، لما استعمل تعبير اللزوم؛ لأنه إذا أمكن استعمال لفظ يحقق المعنى من دون الحاجة إلى الشرط فهو أولى.

ومن قوة الاتفاق الذي هم عليه: لم نلحظ ترددا، أو اضطرابا في كلامهم. وفي هذا دلالة على أن هؤلاء الباحثين، مختلفي المشارب والاتجاهات والأديان، يرون هذه الفكرة متمثلة بوضوح شديد في التصوف.

فإنه يندر اتفاق هذا الخليط المتباين على فكرة ما، إلا إذا كانت برهانا كالشمس، لا يسع من يحترم الحقيقة والعلم أن يغالط فيه !!.

فهذا الاتفاق وتلك الشهادات ما يقول فيها الفكر الصوفي، وما يقول فيها المتصوفة ؟.

هل الفكر الصوفي ينطق بصحة هذه العلاقة، وهل المتصوفة يقرون بها، أم لا ؟.

 

وفي تأكيد انتساب هذه الفكرة إلى التصوف، يتخطى بعض الكتاب وبعض الدوائر البحثية، مجرد التقرير، والتصوير، والتحليل النظري، إلى طرح فكرة الإفادة من التصوف والمتصوفة المسلمين في تقديم صورة أخرى عن الإسلام، غير ما هو معروف عنه، خصوصا في جانب العلاقة بين الديانات، معتمدين في ذلك ما أكده الباحثون من تضمن التصوف فكرة وحدة الأديان..!!.

فإذا كان الإسلام التقليدي، أو الأصولي، أو الإرهابي، أو التكفيري ( كما يسمونه)، يقوم على عقيدة فضل الإسلام، وبطلان ما سواه من الأديان: فإن التصوف يقوم على فكرة المساواة بين الأديان، وعدم فضلها إحداها على الأخرى.

فقد كتب نصر حامد أبو زيد كتابا سماه: "هكذا تكلم ابن عربي"، أفصح في أوله، أن غرضه من التأليف، تقديم فكر ابن عربي ومذهبه القائم على التسامح (= وحدة الأديان) بديلا عن المذهب السلفي المسيطر على الخطاب الإسلامي، القائم على الصدام (= تفضيل الإسلام، وإبطال ما عداه من الأديان)، وفي هذا يقول:

-        "يمثل الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي مع غيره من أعلام الروحانيات، في كل الثقافات يمثل مطلبا ملحا. لعلنا نجد في تجربته، وفي تجاربهم، ما يمكن أن يمثل مصدرا للإلهام في عالمنا، الذي سبق أن ألمحنا لبعض مشكلات الحياة فيه.

-        إن التجربة الروحية هي مصدر التجربة الفنية: الموسيقى، والأدب، وكل الفنون السمعية، والبصرية، والحركية. فهي الإطار الجامع للدين والفن، وهذه أهمية استحضار ابن عربي في السياق العام.

-        لكن استحضار ابن عربي في السياق الإسلامي، واستعادته من أفق التهميش إلى فضاء المتن، مرة أخرى، لا يقل أهمية؛ وذلك بسبب سيطرة بعض الاتجاهات والأفكار والرؤى السلفية، على مجمل الخطاب الإسلامي، في السنوات الثلاثين الأخيرة من القرن العشرين"[11].

على ماذا يدور الخطاب السلفي ؟، وما الذي قصده في هذا السياق ؟.

الخطاب الإقصائي، الإلغائي، الاحتكاري هو المقصود، وهو بالتحديد القول: بعلو الإسلام، وبطلان ما سواه من الأديان، المبني على نصوص صريحة من القرآن. قال تعالى:

-        {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}.

-        {ورضيت لكم الإسلام دينا}.

-        {إن الدين عند الله الإسلام}.

-        {وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين ءأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد}.

وخطاب أعلام الروحانيات في كل الثقافات، كابن عربي وغيره: ضد الخطاب الآنف. فهو بحسب الإفادات التي صدر بهذا الموضوع لا يفضل الإسلام، ولا يبطل الأديان، بل يساوي بينها جميعا؛ بين الدين الذي ارتضاه تعالى، والأديان التي أبطلها..!!.

 

أمر ثالث ينضم مؤكدا إلى ما سبق، هو: الفكرة التي يجتمع عليها كل من درس التصوف، وبحث فيه: أن التصوف مذهب معروف في كافة الديانات القديمة، من هندية، وفارسية، وإغريقية، ويهودية، ونصرانية.. وهو في كل ديانة يلبس لبوسها، ويتكيف مع خطوطها، مع محافظته على الخط المشترك بينه وبين سائر أنواع التصوف الأخرى، الذي يميز التصوف عن غيره من المذاهب والملل.

فمؤدى هذا التقرير من هؤلاء الباحثين: أن هذا التصوف العالمي لا يعارض ديانة، ولا يرفض التلاؤم معها، مهما تباينت وتناقضت؛ بدليل تغلغله في سائر هذه الديانات، ونسبته إليها، وعدم معارضتها لشيء منها. وهذا بالضبط هو محتوى فكرة وحدة الأديان..!!.

وهذه جملة من إفادات هؤلاء الباحثين، المختلفي المشارب، الذي لا يحسب أحد منهم على الاتجاه المناهض للتصوف بأي وجه كان:

1-             يقول الفلسيوف الانجليزي الأصل، الأمريكي الجنسية ولتر ترنس ستيس (1886-1967): "قد يدهش بعض هؤلاء الفلاسفة، إذا علموا أنه على الرغم من أن عددا كبيرا من المتصوفة كانوا مؤلهة، وأن عددا آخر كانوا من أصحاب وحدة الوجود، فإن هناك أيضا متصوفة ملاحدة. وربما كان من الأفضل لو استطعنا استخدام كلمات مثل: الاستنارة، والإشراق. الشائعة الاستخدام في الهند، لنصف الظاهرة نفسها"[12].

-        ويقول: "فالذين كتبوا عن التصوف، كثيرا ما ذهبوا إلى أن التجارب الصوفية واحدة أساسا، أو هي متشابهة في جميع أنحاء العالم، وفي مختلف العصور والثقافات، وفي مختلف التداعيات الدينية، وقد أقام العديد من الكتاب حجتهم في موضوعية التجربة الصوفية، على أساس هذا التشابه"[13].

2-              ينقل ستيس عن الفيلسوف وعالم النفس الأمريكي وليم جيمس (1842-1910): "إن التغلب على جميع الحواجز بين الفرد والمطلق، هو الإنجاز الصوفي العظيم. ونحن نصبح في المقامات الصوفية واحدا مع المطلق، ونكون على وعي بهذه الواحدية. هذا هو التراث الدائم والظافر، الذي يصعب أن تغيره اختلافات الظروف والعقائد.. فنحن نجد في الهندوسية، وفي الأفلاطونية الجديدة، وفي التصوف الإسلامي، وفي التصوف المسيحي، وفي مذهب ويتمان: نفس الملاحظة التي تتكرر باستمرار. حتى إنه ليوجد بالنسبة للأقوال الصوفية إجماع أزلي، يجبرنا على الوقفة النقدية والتفكير"[14].

3-             يقول عمر فروخ: "شاع التصوف في الأديان والأمم كلها: في الوثنية والمجوسية واليهودية والنصرانية والإسلام، ولقد عرفه في بعض أشكاله البابليون واليونان والرومان والهنود والصينيون والعرب والعجم ولقد عرفته بعض الأمم الفطرية. ولقد تلون التصوف بألوان الأديان التي نشأ بين أهلها حتى إنه ليستحيل أن نفهم التصوف قبل أن نفهم تطور الدين الذي اتصل به".[15]

4-             يقول أحمد أمين:" فالتصوف نزعة من النزعات، لا فرقة مستقلة كالمعتزلة والشيعة وأهل السنة، ولذلك يصح أن يكون الرجل معتزليا وصوفيا، أو شيعيا وصوفيا، أو سنيا وصوفيا، بل قد يكون نصرانيا، أو يهوديا، أو بوذيا وهو متصوف".[16]

5-             يقول محمد فريد وجدي:" التصوف هو مذهب الغرض منه تصفية القلب عن غير الله، والصعود بالروح إلى عالم التقديس، بإخلاص العبودية للخالق، والتجرد عما سواه. هذا المذهب قديم كقدم النزعة التي أوجدته، فإن الإنسان منذ ألوف من السنين أدرك أن خلف هذه الغلف الجسدانية سرا مكنونا، لا يستثيره إلا إرهاق هذا البدن، بالمجاهدات لإضعاف سطوته والحط من سلطانه، فنشأ هذا المذهب في كل أمة راقية، ولبس شكلا مناسبا لعقولها وأفكارها، وهو معروف في الهند والصين منذ ألوف السنين، وله عند الهنديين أساليب شديدة على النفس منها أن يظل الرجل سنين لا يتكلم، بل يقرأ في نفسه بلا صوت ما يكون قد أمره أستاذه بتكراره، ومنها أن يجلس على صفة خاصة وقتا مديدا، إلى غير ذلك من الأساليب الجهادية، ولكن لما وجد تحت ظل الإسلام وأحيط بأدب القرآن، دخل في دور جديد"[17].

فمذهب يجمع تحت سقفه كافة الديانات، حتى الملاحدة، حتى اللامنتمي إلا ديانة ما، ويتكيف مع كلها، على حد سواء، لن يكون معاديا إلا لفكرة تعادي فكرته الجمعية هذه، أما سائر الأفكار التي لا ترفضه، فمهما كان اتجاهاتها، فهي مقبولة عنده.

فهذا حال التصوف في كافة الديانات، ومن إفادات هؤلاء الباحثين نفهم أن التصوف الإسلامي ليس مختلفا في هذا عن سائر أنواع التصوف الأخرى.

فهل الأمر كذلك ؟.

 

فنحن إذن بين شهادات، وإفادات، ومحاولة لاستغلال وتوظيف هذه الفكرة، التي قرر أولئك الباحثون وجودها في التصوف.

فهل لنا أن نجعل هذه الأدلة برهانا، يقينا، نستند إليها في إثبات نسبة وحدة الأديان إلى التصوف، نسبة الولد إلى أمه، أم ثمة وسيلة للتشكيك في هذه القضية ؟.

إن نسبة فكرة ما إلى مذهب ما، أو شخص ما بمجرد الشهادات، مهما كثرت، أو بمجرد محاولة الإفادة - لنشر الفكرة - من ذلك المذهب، أو الشخص: قد لا يكون كافيا.

نعم هذه أدلة معتبرة، وقوية، يمتنع تواطؤها، خاصة مع تعدد مشاربها، واختلاف مقاصدها، وتباين مصادرها. لكن المنهج العلمي يفرض من حيث الأصل: أن يكون إثبات النسبة من خلال أفكار وتقريرات المذهب نفسه، وأقوال وآراء أصحابه.

ولأجل هذا، فالذي علينا هو: النظر في الأفكار والآراء الصوفية، والتماس مواطن هذه الفكرة فيها، وكيفية تقرير المتصوفة لها. فالبحث إذن في قسمين:

-        المبحث الأول: يبحث في تأصيلات التصوف لفكرة وحدة الأديان.

-        المبحث الثاني: يبحث كيفية تقريرات المتصوفة لهذه الفكرة.

 

*       *       *

-        المبحث الأول التأصيلات الصوفية لفكرة وحدة الأديان.

 

بعد النظر واستعراض الأفكار الصوفية: نقف على جملة منها، علاقتها بوحدة الأديان بادية، غير خافية. منها ما هو فلسفي، ومنها ما أصله إبليسي، ومنها ما له أصل شرعي، فسّر بوجه يتلاءم مع الفكر الصوفي. هذه الأفكار هي:

1-             وحدة الوجود.

2-             الحب الأزلي.  

3-             الربوبية.               

4-             الجبر.

5-             الرضا.           

فالأوليتان فكرتان فلسفيتان. والثالثة ثابتة في النصوص الشرعية. والرابعة أول من نطق بها إبليس، في قوله تعالى: { قال رب بما أغويتني}. والخامسة لها أصل في النصوص الشرعية.

فهذه الأفكار هي التأصيلات الصوفية لفكرة وحدة الأديان، أو هكذا يبدو للوهلة الأولى، عند النظر في النصوص الصوفية.

وللتأكد من هذه النتيجة، ومطابقتها لإفادات الباحثين السابقين: يفترض بنا دراسة تلك النصوص، وفحصها، وتحليلها. وهذا ما سيكون بعون الله تعالى.

 

*       *       *

1- وحدة الوجود.

وحدة الوجود تعني: أن الله تعالى هو كل شيء، أو كل شيء هو الله تعالى. فلها صورتان:

-        الأولى: الله وحده هو الحقيقي، وما العالم إلا مجموع من التجليات، أو الصدورات التي ليس لها أية حقيقة ثابتة، ولا جوهر متميز. وهذه تسمى بمذهب وحدة الوجود الروحية.

-        الثانية: العالم هو وحده الحقيقي، وما الله إلا مجموع كل ما هو موجود. وهذه تسمى بمذهب وحدة الوجود المادية، أو الطبيعية. [18]

ولآخرين، كابن تيمية، تفصيلات أخرى وتقسيمات لهذه الفكرة، بالنظر إلى:

ما مواقف المتصوفة، واتجاهاتهم فيها ؟.

وفي المحصلة كلها تتفق على أن جوهرهذه الفكرة هو القول: بأن الله تعالى في كل شيء بذاته. سواء قيل: إن ذلك حاصل بطريق الأصل؛ أي أن الله تعالى هو هذا العالم كله، لم يفارقه لحظة. أو بطريق الطروء (=الحلول، والاتحاد)؛ أي توحد معه في لحظات دون أخرى[19].

وسائر الناس يقررون في العقيدة الإلهية: أن الإله له صفات الكمال والحسن في ذاته، وصفاته، وأفعاله.

وبناء على هذا العقيدة، فإن حلوله، أو اتحاده، أو وحدته بالبشر، وسائر المخلوقات  موجب لانتقال صفاته الكاملة إليهم، ومن ثم انتفاء القبائح عنهم، وحينئذ يتوجب أن تكون ذواتهم، وصفاتهم لها الخصائص الإلهية ذاتها، من الكمال والحسن، وانتفاء النقص والقبح والفساد، وكذلك أفعالهم..؟!!.

فمهما فعلوا، فلا يوصف فعلهم إلا بالحسن والصحة. وقد علم أن من أفعالهم عبادة ونسك لغير الله تعالى، من وثن، وصنم، ونار، وبقر، ونبي.. إلخ. يدل على هذا تباين أديانهم كليا، فهذا: وثني، وهذا مجوسي، وهندوسي، ويهودي، ونصراني. فأفعال كل هؤلاء إذن حسنة وصحيحة؛ إذ أفعالهم أفعال إلهية، صارت كذلك باتحاد ذواتهم بالذات الإلهية، وحلول الذات الإلهية فيهم، ووحدتهم معه.

فكيف يمكن أن يقال بعد هذا: هذا دينه حسن صحيح، وهذا دينه قبيح باطل ؟!.

إن فرض أن ثمة أناس على دين باطل، يعني نفي الكمال والحسن عن الأفعال الإلهية..!!.

ذلك وجه، وثمة وجه آخر لارتباط تصحيح الأديان بوحدة الوجود، هو:

مع القول بأن الله تعالى هو كل شيء، وأنه هو هذه المخلوقات، قد حل في كل واحد منها، فمقتضى ذلك: أن كل مخلوق من هذه المخلوقات هو الله تعالى ..؟؟!!.

وحينئذ فكل من عبد شيئا فما عبد إلا الله تعالى..!!. فهذه المعبودات ماهي إلا محل تجلي الإله وظهوره فيها، فكلها حقة.

وأما الاختلاف في الديانات، فإنما جاء من جهة اختلاف مظاهر المعبودات، أما الباطن فواحد في الجميع، إنه الله تعالى، الذي حل واتحد بها. وبهذا يصدق أنها جميعا متساوية غير متفاضلة في حقيقتها، وإن تفاوتت في مظاهرها.

 

فإثبات صحة الأديان جميعها- من جهة بنائها على فكرة وحدة الوجود - يأتي من ثلاث جهات:

-        الجهة الأولى: العابد. فإن الإنسان إذا كان محل تجلي الإله، وهو صورته، فحركاته، واختياراته إلهية. فمن أين يأتي الخطأ إذن ؟، وكيف يصح الحكم على فعله بالبطلان؟.

-        الجهة الثانية: المعبودات. فإذا الله تعالى قد تجلى وحل في جميع هذه المعبودات، فمهما عبد شيئا منها، فما عبد إلا الله تعالى. فمن أين يأتي التفاضل بينها ؟، وكيف يمكن الحكم على بعضها بالبطلان ؟.

-        الجهة الثالثة: بالنظر إلى العابد والمعبود معا. فإن بالوحدة يصير العابد والمعبود عينا واحدة، فكيف حينئذ يمكن تقسيم الناس إلى مؤمن وكافر، وهذا في الجنة، وهذا في النار، وهذا يحبه الله، وهذا يبغضه الله، والجميع صورة عن الله تعالى، محل تجليه وظهوره ؟.

وهكذا نرى فكرة وحدة الوجود تقرر: أن الجميع يعبد الإله الحق. مهما اختلفت المعبودات، والديانات، ولو تناقضت. وهذه هي وحدة الأديان.

وبهذا ندرك أن وحدة الوجود متضمنة لوحدة الأديان، وندرك انتفاء تقسيم الناس في ظل هذه الفكرة؛ لأن الكل عين واحدة، فمن عبد شيئا، فإنما عبد الله وحده، فعابد الشجر، والقمر، والبقر، والبشر إنما عبد الله، وما توجه إلى سواه.

 

*       *       *

أقوال  وتقريرات المتصوفة لعقيدة وحدة الوجود.

1-             ينقل السراج عن أبي علي الروذباري: أنه أطلق على أبي حمزة البغدادي أنه حلولي. وذلك أنه سمع صوتا، مثل: الرياح، وخرير الماء، وصياح الطيور. فكان يصيح ويقول: لبيك. فرموه بالحلول، ثم ذكر السراج الطوسي: أن أبا حمزة دخل دار الحارث المحاسبي، وكان للحارث شاة، فصاحت ، فشهق أبو حمزة وقال: "لبيك سيدي. فغضب الحارث وعمد إلى سكين، وقال: إن لم تتب من هذا الذي أنت فيه، أذبحك. قال أبو حمزة: إذا أنت لم تحسن تسمع هذا الذي أنا فيه، فلم تأكل النخالة بالرماد".[20]

2-              وذكر ابن الجوزي قول أبي يزيد البسطامي:" سبحاني، سبحاني، ما أعظم سلطاني، ليس مثلي في السماء يوجد، ولا مثلي صفة في الأرض تعرف، أنا هو، وهو أنا، وهو هو".

-        وساق ابن الجوزي سنده إلى الحسن بن علي بن سلام قال: " دخل أبو يزيد مدينة فتبعه منها خلق كثير، فالتفت إليهم فقال: إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدون. فقالوا: جنّ أبو يزيد؛ فتركوه".[21]

3-             نقل أبو عبدالرحمن السلمي عن الشبلي قوله: " وما افترقنا، وكيف نفترق ولم يجر علينا حال الجمع أبدا "[22].

-        والهجويري عنه قوله: " الصوفي لا يرى في الدارين مع الله غير الله" [23].

4-             زعم الحلاج أن من تهذب بالطاعة، لا يزال يصفو عن البشرية، حتى يحل فيه روح الله، الذي كان في عيسى عليه السلام، فلا يريد شيئا إلا كان[24]. ويقول:  

                سبحان من أظهر ناسوته          سر سنا لاهوته الثاقب

ثم بدا في خلقه ظاهرا           في صورة الآكل والشارب

حتى لقد عاينه خلقه            كلحظة الحاجب بالحاجب[25]

وذكر عنه السلمي قوله: " ما انفصلت البشرية عنه، ولا اتصلت به "[26].

وقد زعم أن الله حل فيه، وكان يرسل رسائل إلى أصحابه ويزعم أنه هو  الله تعالى، وفي كتبه شيء كثير من هذا، فهو محل إجماع عند أهل العلم أنه يقول بالحلول، وكان يقول: " إني مغرق قوم نوح، ومهلك عاد وثمود"، وله الجملة المشهورة: "أنا الحق"[27].

5-             يروي الطوسي عن سهل بن عبد الله التستري قوله، وقد سئل عن سر النفس، فقال: "النفس سرٌّ، ما أظهر ذلك السر على أحد من خلقه إلا فرعون، فقال: أنا ربكم الأعلى"[28]. فهذا صريح في الحلول والاتحاد، ومثل هذا الكلام قد يكون منسوبا إلى التستري، إلا أن:

 استشهاد الطوسي به، وسوقه، يدل على رضاه به؛ فإنه ذكره تقريرا لآراء المتصوفة، وليس مجرد ذكر، فهو إذن من الآراء الصوفية.

واعتماد المتصوفة كتاب الطوسي "اللمع"، وجعلهم إياه من الكتب المعتمدة، وعدم نقد شيء فيه، بما فيه هذه الكلمة ونحوها، يدل على رضاهم به.

6-             يقول مولوي جلال الدين الرومي: "يقول الشاعر:

يا من أنت نسخة الكتاب الإلهي،

 ويا من أنت مرآة الجمال الشاهي

                        ليس خارجا عنك كل ما هو موجود في العالم،

                                ففي نفسك اطلب كل ما تريده، واهتف: إنه أنا"[29].

 ويقول: "لا إله إلا الله، إيمان العامة. أما إيمان الخاصة فهذا: لا هو إلا هو".[30]

يقول: "وهكذا فإن منصورا [الحلاج] عندما بلغت محبته للحق نهايتها صار عدوا لنفسه وأفنى نفسه؛ إذ قال: أنا الحق. أي أنا فنيت وبقي ا لحق وحده. وهذه غاية التواضع ونهاية العبودية؛ إذ تعني العبارة: هو وحده. فالدعوى والتكبر تكونان في أن تقول: أنت الله، وأنا العبد. لأنك بقول هذا تون قد أثبت وجودك أيضا، ويلزم من ذلك الثنائية. وإذا ما قلت أيضا: هو الحق. فإن الحق هو الذي قال: أنا الحق. لأن غيره لم يكن موجودا، وكان منصور قد فني، وكان ذلك كلام الحق".[31]

بعض هذه النصوص ليست في الوحدة، بل في الحلول، وإنما وردت هنا للعلاقة التي بين الحلول والوحدة من جهة، وللعلاقة بين الحلول ووحدة الأديان من جهة أخرى:

فأما علاقته بالوحدة، فذلك أن الحلول على قسمين: عام، وخاص. فالعام منه هو نفسه وحدة الوجود.

وأما علاقته بوحدة الأديان، فذلك أن الحلول عموما، حتى الخاص منه، يجعل من المعبودات إلهية الشأن والمقام؛ إذ يمكن عن طريق القول بالحلول: ادعاء أنها محل حلول الله تعالى. اختصت به دون غيرها، فتستحق بذلك أن تكون معبودات حقة.

ونصوص الوحدة في الوجود عن الصوفية كثيرة جدا، والصوفية لا ينكرون وجود هذا في كتبهم، لكن بعضهم يرفض هذا النوع، ويتبرء منه، ويعده غاليا.

شهادات الباحثين أن التصوف يقرر وحدة الوجود.

1-             يقول ابن خلدون: "ذهب كثير منهم إلى الحلول والوحدة، كما أشرنا إليه، وملؤوا الصحف منه، مثل: الهروي، في كتاب المقامات له، وغيره، وتبعهم: ابن العربي، وابن سبعين، وتلميذهما ابن العفيف، وابن الفارض، والنجم الإسرائيلي، في قصائدهم"[32].

2-             يقول المستشرق الإنجليزي نيكلسون:" وقد أجمع النقاد على: أن القول بوحدة الوجود، وهو أخص مظاهر التصوف الإسلامي".[33]

3-              يقول أحمد أمين: "أركان التصوف ثلاثة: وحدة الوجود، والفناء في الله، وحب الله"[34].

4-             يقول التفتازاني: "ويقصد بالفناء: الحالة النفسية التي يشعر معها الصوفي بذاته، كما يشعر أنه بقي مع حقيقة أسمى، مطلقة، هي: الله. عند صوفية المسلمين، أو: الكلمة. عند صوفية المسيحيين. أو: براهما. في تصوف البرهمية، وهكذا. وقد ينطلق بعض الصوفية إلى القول:

-         بالاتحاد بهذه الحقيقة.

-        أو أنها حلت فيهم.

-         أو أن الوجود واحدة لا كثرة فيه.

ويعود بعضهم إلى البقاء بعد الفناء، فيثبتون الإثنينية بين الله والعالم"[35].

والتفتازاني رحمه الله تعالى وهو شيخ مشايخ الطرق الصوفية في مصر: ينزه التصوف من فكرة: الحلول، والاتحاد، والوحدة. غير أنه لم يستطع أن يدفع وجودها بين المتصوفة.

فالجميع متفق: على وجود هذه الفكرة في التصوف والمتصوفة بصورة ظاهرة، غير خفية. وإن تبرأت منها طائفة وتنزهت.

 

*       *       *

2- الحب الأزلي.

المقصود بالأزلي: القديم. وهو ضد الحادث، ومصطلح القديم في هذا الموضع يطلق يراد به: الذي ليس له بداية. وهذا هو معنى الأزلي. [36]

فالحب الأزلي هو: الحب القديم، الذي ليس بداية، أو الذي لم يسبق بعدم.

وبحسب سياق الحديث، فإن الحب حبان: حب الإنسان لله، وحب الله للإنسان.

والمقصود من هذين الحبين هنا، هو: حب الله تعالى للإنسان. ويقال عنه: الحب الإلهي.

فالحب الأزلي معناه: أن حب الله تعالى للإنسان أزلي قديم، لم يسبقه عدم؛ أي أنه ليس بحادث وفق العوارض والحوادث، إنما حصل بغير علة ولا سبب.

لكن ما المراد بالإنسان هنا: الجنس، أم فئة نالت هذا الشرف الإلهي ؟.

وفي كلا الحالتين: هذا الحب الأزلي، سواء تعلق بالجنس، أو بفئة: حصوله كان بشرط، أم من غير شرط ؟.

هذا ما نريد من المتصوفة الإجابة عنه، بما أنهم هم الذين قرروا فكرة: الحب الأزلي.

*       *       *

نصوص المتصوفة في الحب الأزلي:

1-             عن أبي يزيد: "غلطت في ابتدائي في أربعة أشياء: توهمت أني أذكره، وأعرفه، وأحبه، وأطلبه. فلما انتهيت، رأيت ذكره سبق ذكري، ومعرفته تقدمت معرفتي، ومحبته أقدم من محبتي، وطلبه لي أولاً حتى طلبته"[37].

2-             عن أحمد بن أبي الحواري: "لا يستطيع العبد أن يحب الله، حتى يكون الابتداء من الله بالحب له، وذلك حين عرف منه الاجتهاد في رضائه"[38].

3-             سئل الشبلي: إلى ماذا تحن قلوب أهل المعارف؟، فقال: إلى بدايات ما جرى في الغيب من حسن العناية في الحضرة، بغيبتهم عنها، ثم قال:         

                سقيا لمعهدك الذي لولم يكن    ما كان قلبي للصبابة معهدا[39]

4-             يقول أبو طالب شارحا هذه الفكرة ومدللا عليها:" ومحبة الله سابقة للأسباب عن كلمته الحسنى، قديمة قبل الحادثات، عن عنايته العليا، لاتتغير أبدا ولا تنقلب لأجل ما بدا، لقوله تعالى: { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} [الأنبياء 101] يعني الكلمة الحسنى، وقيل: المنزلة الحسنى. فلا يجوز أن يسبقها سابق منهم، بل قد سبقت كل سابقة تكون، كقوله تعالى: {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين} [الأنبياء 51]، فكذلك قال: {هو سماكم المسلمين من قبل}[الحج 78] .... ولا يصلح أن يكون قبل قدم الصدق منهم قدم، كما لا يصلح أن يكون قبل علمه بهم منهم عمل بهم منهم، لأن علمه سبق المعلوم، ومحبته لأوليائه سبقت محبتهم إياه ومعاملتهم له"[40].

-        ويقول المكي: "وكل محبة لله فعن محبة الله، لأن وجود العبد لمحبته لله علامة غيب محبة الله له، يبين ذلك الغيب له في هذه الشهادة "[41].

 

فهذه جملة من نصوصهم في المعنى، وفي جواب: إن كان ثمة شرط لحصول هذا المحبة الإلهية السابقة ؟: نرى كلاما متفاوتا:

- فالبسطامي لم يذكر شرطا، ونصه لا يفيد عدم الاشتراط.

- وابن أبي الحواري يذكر الشرط، وهو: الاجتهاد في رضى المولى.

- وأما الشبلي فلا يذكر شرطا، إنما يذكر كلاما غامضا، " بدايات ما جرى في الغيب، حسن العناية في الحضرة، بغيبتهم عنها.."، يشير إلى بداية الخلق، والتي كان الخلق فيها، ومنه الإنسان، في غيبة عنها، حيث العدم، ففي هذه البدايات حصلت المحبة الإلهية للإنسان. وهذا يعني أنها محبة من غير شرط؛ إذ كيف تكون بشرط، وفاعل الشرط معدوم، لم يوجد بعد ؟.

- أما المكي فكلامه متناقض !!؛ فظاهره الاشتراط، حيث خص الأنبياء والصالحين بالذكر، وهؤلاء حصّلوا شرط المحبة، وهو الطاعة.

لكن في كلامه ما يكدر على إثبات الشرط؛ فهذه المحبة عنده لم تتغير لحظة، حتى في الحال ما قبل إرسال هؤلاء الرسل والأنبياء. ولم تنقلب حتى في حال ما قبل إيمان أولئك الصالحين، كالصحابة قبل إسلامهم، فإنهم كانوا كفارا. فهل كانوا محبوبين حينذاك ؟.

فالمحبة الأزلية لازمها أنها حاصلة من غير شرط، باصطفاء، واجتباء، باعتبار ما سيكون من هذا الإنسان في المستقبل، فإذا تقدمت المحبة فالشرط غير معتبر. يقول تعالى:

{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} [آل عمران31].

فهذا نص على أن الشرط أولاً (=الاتباع)، ثم المحبة الإلهية.

وهكذا هي التراتيب المنطقية للأمور: العمل أولا، ثم المكافأة والثواب. أما التقدم بالمكافأة فإشعار بعدم اشتراط العمل، إلا في حالة محتملة هي: إذا ما كانت المكافأة تقدمت العمل مباشرة. وهذا ما يفيده كلام ابن أبي الحواري.

فأما التقدم المطلق الأزلي اعتمادا على العلم بحصول العمل لاحقا، فهذا وإن كان ممكنا غير محال في العلم والإرادة الإلهية، إلا أنه يتعارض مع السنة الشرعية التي شرعها الله تعالى، وهي أن محبته مبنية على طاعة متقدمة من الإنسان، كما في الآية الآنفة وغيرها.

فقد لوحظ أن تقرير المتصوفة للشرط المطلوب للمحبة ضعيف. وتقريرهم لمحبة إلهية للإنسان من غير شرط، أظهر وأوضح، بالنظر إلى أن هذا هو مؤدى القول بالحب الأزلي.

 

فأما جواب السؤال الثاني: إن كان المراد بالإنسان جنسه، أم فئة خاصة ؟.

لم يظهر في كلام أولئك المتصوفة تحديد المراد بدقة ووضوح، وإن كان الأظهر أنه في المسلمين دون غيرهم، لكنا نجد في كلام من بعدهم في هذه القضية، ما يفيد أن المراد هو جنس الإنسان، ليست فئة خاصة، يقول ابن عربي:

" حب الله عباده لا يتصف بالبدء وبالغاية، فإنه لا يقبل الحوادث ولا العوارض، لكن عين محبته لعباده، عين مبدأ كونهم؛ متقدميهم ومتأخريهم إلى مالا نهاية له، فنسبة حب الله لهم، نسبة كينونته كانت معهم أينما كانوا، في حال عدمهم وفي حال وجودهم.

فكما هو معهم في حال وجودهم، هو معهم في حال عدمهم؛ لأنهم معلومون له مشاهد لهم، محب فيهم، لم يزل ولا يزال، لم يتجدد عليه حكم لم يكن عليه، بل لم يزل محبا خلقه، كما لم يزل عالما بهم، فلا أول لمحبته عباده"[42].

في هذا النص إشارات مصرحة بعموم هذه المحبة لجنس الإنسان، في العبارات التالية:

-        "عين محبته لعباده، عين مبدأ كونهم، متقدميهم ومتأخريهم، إلى ما لا نهاية له".

-        "بل لم يزل محبا خلقه، كما لم يزل عالما بهم".

فهذه ونحوها تنحو منحى العموم، دون استثناء، ورأي ابن عربي في هذا المعنى معروف، في نصوص كثيرة معروفة.

ووفق هذا المعنى، فإن هذا فيه إثبات أن التصوف يرى المساواة بين جنس الإنسان في المحبة الإلهية، لا فرق فيها بين مؤمن وكافر، وهذا ما قرره ابن عربي بوضوح حينما ذكر:

أن جميع الخلق أحباب الله، مؤمنهم وكافرهم منذ الأزل، وسيبقى هذا الحب أبدا، وأن مآل أهل النار إلى النعيم، فيلتذون بالنار، كما يلتذ أهل الجنة في الجنة؛ وذلك لأن المحبة للخلق أزلية أبدية، والوجود جميعه خلق الله، خلقه ليعرف ذاته، فلما خلقه أحبه، يقول:

"هذا كله من رحمته ومحبته في خلقه ليكون المآل إلى السعادة، فلما ضعف الوسط وتقوى الطرفان، غلب في آخر الأمر وامتلأت الداران، وجعل في كل واحدة منهما نعيما لأهلها يتنعمون به، بعدما طهرهم الله بما نالوه من العذاب؛ لينالوا النعيم على طهارة.

ألا ترى المقتول قودا، كيف يطهره ذلك القتل، من ظلم القتل الذي قتل من قتل به؟. فالسيف محاء، وكذلك إقامة الحدود في الدنيا كلها تطهير للمؤمنين، حتى قرصة البرغوث والشوكة يشاكها.

وثم طائفة أخرى تقام عليهم حدود الآخرة في النار؛ ليتطهروا ثم يرحمون في النار لما سبق من عناية المحبة، وإن لم يخرجوا من النار

فالرحمة  والنعمة والإحسان في البدء والعاقبة والمآل، ولم يجر لاسم الشقاء ذكر في الإتيان، إنما هو رب أو رحمن؛ ليعلمكم ما في نفسه لكم "[43].

إذن هذا الحب الأزلي شامل لجميع الخلائق بلا فرق بين الأديان، لأنها سابقة، كما سبقت الرحمة والعناية وعمت، ومن ثم مآل الكل إلى السعادة، لقوة المحبة وعمومها التي تتضمن الرحمة، حتى أهل النار يتنعمون فيها بما أعطوا من المحبة، وهذه الفكرة من أصول وحدة الأديان، وأثر من آثار وحدة الوجود.

وقد نحمّل الصوفية كلام ابن عربي؛ لأنه مرضي عند كثير منهم، وردودهم عليه قليلة، مع علمهم بكلامه، وكثرة اطلاعهم على كتبه، بل لايزالون في تقديمه، والاعتراف بإمامته.

وليس ابن عربي وحده صرح بهذا، بل كل من كان أهل وحدة الوجود، فهو يقول مثله.

*       *       *

3- الربوبية .

للصوفية اعتناء كبير بهذه القضية؛ فمن خلال تتبع أقوالهم، يتبين جليا تقديمهم توحيد الربوبية على توحيد الألوهية:

-        فالربوبية متعلقة بالله تعالى، والعبودية أو الألوهية متعلقة بالعبد.